الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأحد 10 / نوفمبر 04:02

بان كي مون..أمين أكثر مما هو عام/ بقلم: أحمد فرحات

كل العرب
نُشر: 20/10/15 07:58,  حُتلن: 08:04

 أحمد فرحات في مقاله:

رائحة الفساد المالي التي تفوح من بان كي مون، عمرها أكثر من ست سنوات، لكنه عرف، حتى الآن، كيف يلتفّ عليها، مدعوماً من الولايات المتحدة، ومعها بعض دول منظومة الأطلسي

مسيرة بان كي مون الشخصية مرتبطة بالولايات المتحدة ارتباطاً عميقاً، تماماً كما مسيرة بلاده التي لا تزال سيادتها محدّدة باتفاقيات الدفاع الموقّعة مع القوة العظمى

استطاع بان كي مون أن يثبت مواهبه شخصاً قديراً على تدوير الزوايا، وامتلاك سياسة تجاذب بذاتها، ولا تودي إلى أي موقف حاسم، تصحبها بالطبع "مهارة" تفاوض هائلة، لا يمكن لها أن تغضب الأسياد

عندما خاطبت مسؤولة مكتب مكافحة الفساد في الأمم المتحدة، السويدية، إينغا بريت ألينوس، الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون: "أعمالك، يا سيد بان، ليست مؤسفة فقط، بل تستحق الشجب والعقاب. .. تطلّع إليها بابتسامة ساخرة ماكرة من عينيه الضيقتين، أكثر منها من فمه الصغير، وتابع سيره في اتجاه مكتبه، غير آبه بما سمع".

رائحة الفساد المالي التي تفوح من بان كي مون، عمرها أكثر من ست سنوات، لكنه عرف، حتى الآن، كيف يلتفّ عليها، مدعوماً من الولايات المتحدة، ومعها بعض دول منظومة الأطلسي. ولا غرو، فأول ما وُصف به بان كي مون "إنه صديق حميم لأميركا"، وهو يفخر بذلك، ويقول، إن حبه الولايات المتحدة يعود إلى زمن فتوّته الأولى، عندما أجبره اجتياح جيش كوريا الشمالية على الفرار من القرية التي ولد فيها، إيوماسونغ في كوريا الجنوبية؛ فاعتاشت عائلته من المساعدات الإنسانية، وعاش بلده من الدعم السياسي والعسكري الذي أمّنته واشنطن، وبقيت ذكرى الحرمان الذي عاشه مرتبطة في ذاكرته بالمساعدة الغذائية وبالجنود الأميركيين.

وبان كي مون (71 عاماً) كان قد فاز في مرحلة مراهقته بمسابقة نظّمها الصليب الأحمر الأميركي، الأمر الذي مكّنه من اكتشاف الولايات المتحدة مبكراً، ومن زيارة البيت الأبيض، حيث استقبله الرئيس، جون كينيدي، وهو يعتبر ذلك اللقاء حاسماً في اختياره احتراف الدبلوماسية في ما بعد، حيث عاد إلى الولايات المتحدة لمتابعة تحصيله العلمي في جامعة هارفرد، متخرّجاً في الإدارة العامة. واتسع نطاق ارتباطه العملي بالولايات المتحدة، حيث عمل سكرتيراً أول في البعثة الدائمة لكوريا الجنوبية لدى الأمم المتحدة في نيويورك، ثم لاحقاً، وفي يناير/كانون ثاني 2007، عُيّن أميناً عاماً للأمم المتحدة، بعدما كان وزيراً لخارجية بلاده.

هكذا تكون مسيرة بان كي مون الشخصية مرتبطة بالولايات المتحدة ارتباطاً عميقاً، تماماً كما مسيرة بلاده التي لا تزال سيادتها محدّدة باتفاقيات الدفاع الموقّعة مع القوة العظمى. وكرّس التدخّل الأميركي في العراق سنة 2003 هذا التحالف؛ فقد دعمت كوريا الجنوبية العملية بإرسال أكثر من ثلاثة آلاف جندي إلى الأراضي العراقية، وحثّ على ذلك، خصوصاً في ذلك الوقت، وزير خارجيتها بان كي مون.

من جهة ثانية، إذا كان الدبلوماسي الكوري الجنوبي يتمتّع فعلياً بتأييد الولايات المتحدة، فقد كان، أيضاً، مرشّح الصين المفضّل لمنصب الأمانة العامة للأمم المتحدة. ويعتبر دعم هاتين القوتين العظميين شرطاً مسبقاً ضرورياً لانتخاب الأمين العام. ولا شك أن بان كي مون سيواجه دوماً تحدّي المحافظة على هذا الدعم المزدوج، وسيتوجّب عليه، بالضرورة، أن يعمل جاهداً لإشراك بكين في الإدارة الجماعية للشؤون العالمية. وقد شهدت على ذلك بوضوح قضيتا دارفور في السودان ومسألة التغيّر المناخي، فمن دون أي شكل من التعاون من الصين، قد يبقى عمل منظمة الأمم المتحدة من دون نتيجة، وقد يفقد كل صدقيّة يتمتع بها.
وبالمقارنة مع سلفه في منصب الأمين العام للمنظمة الدولية، كوفي عنان، والذي اتهم، هو الآخر، بالفساد المالي والتورّط في رشى هائلة مع ابنه كوجو، فإن "فساد بان كي مون أقوى وأشرس"، على حد تعبير غييوم دوفان، من معهد العلوم السياسية في باريس، لكنه يظل فساداً محنّكاً مغلّفاً بالكتمان والانطواء، مثل شخصيته التي تؤثر البقاء في الظل.

ومع أنهما تمتّعا معاً بالدعم الأميركي عينه، إلا أنها رأت ولاء بان كي مون لها سيكون أقوى، وأكثر تجذّراً و"أمانة" في خدمة هيمنتها. ولم تكتف واشنطن بذلك، بل شجعت على إدانة عنان بالانغماس في فضيحة "النفط مقابل الغذاء"، عندما فازت شركة كوتنكا التي وظفت ابنه كوجو، بالعقد مع الأمم المتحدة، وتبين أن هناك اختلاسات مالية جاوزت مليار دولار. ويذهب محللون إلى أن الولايات المتحدة رفعت الغطاء عن فساد كوفي عنان هنا لأسباب محض سياسية، تتعلّق بموقفه الرافض، ضمناً، الحرب الأميركية على العراق.
وإن كان من عبرة هنا، استطاع بان كي مون استخلاصها من تجربة سلفه، فهي أن الأمم المتحدة لا تستطيع أن تعمل من دون دعم الولايات المتحدة الأميركية، وأن هذا الدعم غير مضمون على المدى الطويل، اللهم إلا إذا أذعن المسؤولون المعنيون، وهو في مقدمهم في المنظمة الدولية، إلى كامل الشروط السرية المفروضة عليهم من واشنطن، وإلا فإن ملفات الفضائح جاهزة لهم، ولمن هم وراءهم في منظومة الفساد المعولم، والذي "يمثل الشر الأساس في عصرنا، ويكشف عن وجهه القبيح في كل مكان"، على حدّ تعبير بيتر إيجن، رئيس منظمة الشفافية الدولية، وهو موظف سابق كبير في البنك الدولي.

انطلاقاً من ذلك كله، استطاع بان كي مون أن يثبت مواهبه شخصاً قديراً على تدوير الزوايا، وامتلاك سياسة تجاذب بذاتها، ولا تودي إلى أي موقف حاسم، تصحبها بالطبع "مهارة" تفاوض هائلة، لا يمكن لها أن تغضب الأسياد. ولذلك، سمّاه أحد المحللين الفرنسيين إنه "أمين أكثر مما هو عام".
خيبات أمل كبيرة سبّبها ويسبّبها بان كي مون لخصوم أميركا في العالم، ومنطقهم في ذلك أن الأمين العام، حتى ولو كانت منظمة الأمم المتحدة ترتبط بإرادة الدول، يملك سلطة فريدة تخوّله التوجّه إلى "شعوب الأمم المتحدة"، وفق مقدمة الميثاق، والتكلّم باسمها. ويُشكّل هذا النفوذ القادر على اجتذاب انتباه الرأي العام العالمي أحد الأسلحة النادرة التي يمتلكها، لكي يضغط على البلدان الأعضاء؛ لكن الأغلب الأعمّ من المراقبين في كل مكان، يشكّون في أن يتخلّى بان كي مون عن سياسته في خدمة الأسياد، ليرفع الصوت عالياً؛ ويتنبّأون للأمم المتحدة بمستقبل أكثر بهوتاً، لا يتصّف بالخضوع الدائم للدول العظمى فقط، وإنما استحالة أي إصلاح لهذه المنظمة الدولية، وخصوصاً، عندما نظّر وينظّر كثيرون حول مسألة الإصلاح هذه.. وفي العالم أجمع.

*نقلاً عن "العربي الجديد" لندن 

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net

مقالات متعلقة

.