جواد بولس في مقاله:
خضر ترك وراءه حركة أسيرة غير موحّدة ترزح تحت أعباء خلافات تنظيمية داخلية وتدفع ثمن اتساع شقوق شروخها الفصائلية
منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي نجح الفلسطينيون ببناء جسم للحركة الوطنية الأسيرة والتي شكلت ردًا حاسمًا لقمع الاحتلال وقدّمت للعالم حالة إنسانية متفوقة على موبقات السجون وقمع السجانين
معطيات كثيرة تغيّرت بين التجربتين في فلسطين وفي ساحة خضر وملعبه فلقد احتضنه العالم مكافحًا باسم الحرية الانسانية وكرامتها وليس كجندي في صفوف هذا التنظيم أو ذاك
الآن، وقد تحرر الأسير خضر عدنان وعاد إلى من أحب وما اشتهى، أستطيع أن أتناول ما حرصت أن لا أقترب منه حينما كان بحاجة إلى كل وشوشة طير تنسيه جوعًا مستوطنًا ونجمة تؤنسه في ليله الرمادي، كي يصمد ويكمل مشواره الذي يحاول كثيرون أن يسبروا كنهه ويتحققوا مما أشغلهم فيه: من أين يستمد خضر مصادر قوّته وذاك الإصرار الخارق على مناوشة الموت؟ كثيرون التجأوا، كما فعل أجدادنا القدماء، حينما عجزوا عن استيعاب فعل أو تفسير ظاهرة، إلى سحر الأساطير ونحت شخصية البطل فوق الطبيعي، فصار خضر، في حكايات العطش، بطلًا، وأسطورةً في لغة عافت خنوع أسيادها وجهلهم، واشتاقت إلى فوارسها وفراديسها وإلى من يعيد الخضرة إلى ضادها.
اليوم، سأكتب عن خضر كي ألامس ما عرّاه، حين أقسم مجددًا: إمّا الحرية مجللة بالعزة والكرامة وإمّا الممات بشرف. فنحن، بالعادة، نسّاؤون في ساعات الولادة والفرح، نطرب على صرخة الوليد الأولى وهو يحيّي فيها هذه الدنيا مبديًا استعداده لمسيرة العودة، ونهمل ما سبقها من وجع وما سيلحق من هم وجزع.
فرادة خضر، بكونه مختلفًا عمّن هم في منزلته، وعمّن يعيشون مثله مسلوبي الحرية وراء جدران القهر، ويتكبّدون ما يمارسه السجّان الإسرائيلي من صنوف القهر والقمع والتحكّم. إنّه شجاع بالفعل، والشجاعة كانت دومًا شرطًا من شروط الحرية. لم يكن يومًا مقامرًا عابثًا، بل كان واضحًا، مستعدًا، يعرف أن النجاح مهمّ ولكن الأهم منه التعلم من الفشل، "فاعقل وتوكل"، كانت وصية على دروب الحرية، وناقوس قائد يمشي بهدي العقل أولًا ويليه ما يهوى القلب ويختار.
لقد كانت التجربة التي خاضها خضر في العام 2012 فرصةً ذهبية، كان الأولى بالحركة الأسيرة أن تستخلص منها بعض العبر والدروس وتستثمرها في نضالاتها من أجل تحسين ظروف الأسرى في المعتقلات الإسرائيلية بشكل عام، والأهم تشبيكها في مسألة الاعتقال الإداري الذي دفع بها إضراب خضر، وما رافقه من تداعيات، إلى صدارة الاهتمام، على المستويين المحلي والدولي.
بعد خمسة وستين يومًا، وحين كان يرقد، بين حياة وموت، على فراشه في مستشفى صفد، وافقت النيابة العامة الإسرائيلية، في حينه، على حلّ مقبول عليه، فأوقف إضرابه وحُرّر، بعد ذلك، إلى بيته. تقادمت تلك الأحداث ومضت دون أن تترك لها أثرًا ذا معنى في صفوف الأسرى، بينما بقي رذاذ عطرها، يعبق في بعض زوايا الوطن الجانبية، ولا يحسن استنشاقه إلا أصحاب الأنوف السليمة غير المصابة بداء الفصائلية أو الاستنشان القاتل.
لقد ترك خضر وراءه حركة أسيرة غير موحّدة، ترزح تحت أعباء خلافات تنظيمية داخلية، وتدفع ثمن اتساع شقوق شروخها الفصائلية، حتى وصلت الأوضاع فيها إلى المطالبة بفرز الأسرى حسب تنظيماتهم وفصلهم كليًا وإبعادهم من سجن إلى آخر لضمان جودة الأنواع ونقائها! وفعلًا "استجابت" إدارة مصلحة السجون الإسرائيلية لرغبات من طلب ذلك "الفصل العرقي"، وحصل كل تنظيم على حيّزه المستقل، مما أتاح لهؤلاء المسؤولين ما لم يحلموا به من فرص للتغلغل في ثنايا الضغائن المتنامية وزرعها بالألغام والأسافين، فضعف عامود الحركة الفقري وضربت وحدتها وتلاحمها.
فمنذ بدء الاحتلال الإسرائيلي نجح الفلسطينيون ببناء جسم للحركة الوطنية الأسيرة، والتي شكلت ردًا حاسمًا لقمع الاحتلال، وقدّمت للعالم حالة إنسانية متفوقة على موبقات السجون وقمع السجانين، ومن خلال التضحيات الجسام ووضوح الرؤية الوطنية وضعت الحركة سفرًا مشرّفًا من المواقف والقيم التي أجبرت، حتى أعتى أعدائها، على احترام أفرادها وما راكموه من تجربة لافتة في تاريخ نضالات الشعوب ضد قامعيها. هذا إضافة لما شكّلته الحركة الأسيرة، طيلة تلك العقود، من كواسر أمواج وحصون متقدمة حمت، عند أكثر من كبوة، قوام الوحدة الفلسطينية الوطنية.
ومرّت ثلاثة أعوام وقرر خضر، بعد اعتقاله إداريًا مرة أخرى، أن يخوض معركته الثانية، معلنًا إضرابه عن الطعام ومقسمًا، إما الحرية وإما الحرية. ومضت الأيام وتقهقرت صحته بشكل مقلق وخطير، ولكن، بخلاف ما استجلبه إضرابه الأول، لم نلمس، هذه المرة، ذلك الزخم من الإسناد والمناصرة؛ فلقد غاب صوت الشارع الفلسطيني الموحد، ومثله صمتت المؤسسات، إلا ما صدر من بحة خجلى هنا ومترددة هناك، بينما لم تحرك أغلبية الأسرى ساكنًا، وكأن خطوة الخضر، هذه المرة، لا تعني الوطن ولا الوطنيين، فهي محسوبة كخطوة فردية، له ولتنظيمه ريعها إن كسبت، وعبء الخسارة، بالمقابل عليهما.
كانت الصورة قاتمة وكان خضر يستشعر ذلك الاختلاف، وفي لحظة صدق مع نفسه، بدأ يستعيد قواعد اللعبة الصحيحة، ويخاطب أحرار العالم ومن باسم الحرية يحيا ويشقى، فبدأ نبض الشارع يستجيب ويخفق، وعيون العالم تدمع وتبرق.
وأمّا الحركة فبقيت أسيرة في مواقعها وتمارس عاداتها وطقوسها الجديدة، حتى انني لمست أحيانًا أن البعض كان يأمل أن لا يكون خضر، كما تتحدث عنه الاخبار، ذاك المناضل العنيد، وعندما كنت أضعهم أمام حقيقة ما يجري وموقفه، كانت الخيبة تتساقط من وجوههم. آلمني ما سمعته وأحزنني ما شاهدته، ومع أنني أعي أن المسؤولية الكبرى تبقى عند قادة الفصائل وهيئاتها الأساسية خارج السجون، لكننا لن نعفي الحركة الأسيرة مما وصلت إليه، وإذا لم تستفق قياداتها الوطنية الواعية، ستتمكن قبضات السجانين من رقابها، كما تتمكن فكوك الأسود من رقاب فرائسها.
ومرّةً أخرى تنتصر الارادة.
وأمطرتنا الأقلام والمواقع بقصصها عن ذاك البطل الخيالي! والأسطورة الحية!، وكنت أقرأ وأشاهد وأسمع، وأخشى عليه ممن كانوا يحرسون بوله ويقصفون حلمه وما زالوا كالتماسيح يتحيّنون غلطة وفرصة، وأخشى عليه من أخوة له، إختلطت عليهم الأمور، وحسبوا أن قضبان السجون عصي تؤمّن لهم سلطة وسلطانًا ونسوا أنهم أسرى لأوهام وضحايا لعجز، وأخشى عليه من حب "القبائل" وعناقها الذي يكون في كثير من الأحيان كعناق الدببة خانقًا، وأخشى عليه، كذلك، من نفسه، فلا تصدّق يا خضر، أنك أسطورة، ولا تقبل أن تكون بطلا في إحداها، فلطالما بقيت كعاب الأبطال عارية وعرضةً، كما علمتنا الأسطورة، لإصابة سهام الحقد المسمومة.
معطيات كثيرة تغيّرت بين التجربتين، في فلسطين وفي ساحة خضر وملعبه، فلقد احتضنه العالم مكافحًا باسم الحرية الانسانية وكرامتها، وليس كجندي في صفوف هذا التنظيم أو ذاك، وكاد أن يدفع هو ثمن عودته إلى حضنه المحلي الضيّق، لولا استعادته، وفي الوقت المناسب، لتوازنه الضروري حين عاد وانطلق، يخاطب، باسم كرامة الانسان الصافية، ميادين العالم الرحبة.
يستحق الوجع الفلسطيني من يمثله على منصات الشرف العالمية، ففي مسيرة عطاء هذا الشعب كانت هنالك دائمًا رموز للتضحية والمقاومة النبيلة، وكانوا جميعهم قيمًا و قامات أكبر من تنظيم ومن بلد، فهل ستبقى، يا رفيقي، نقيًا كالنبع، عاديًا كالنار، حرًا كالريح، ضعيفًا كالندى؟ وهل سترضى أن تكون إنسانًا، لا أقل ولا أكثر، لتبقى، كمن ساروا على درب العزة هذه، الأقوى والأدوم والأنصر، ونضمن أن يعاقب الخطاة، يومًا، لأن الخطيئة، هكذا وعدت العاصفة، لا تشيخ.. ولا تموت.