د. سامي سويد في مقاله:
صاحب التفكير التكفيري سوف لا يتوقف عن المجازر وسفك الدماء حتى يبقى لوحده أمام مرآته
نزلت بالدروز المِحَن كبيرها وصغيرها ولكنّهم خرجوا دائمًا من تلك المِحَن بمِنَح الصبر والتفكر والتعقل والتسامح
شعار الموحّدين الدروز كان وما زال عبر الأجيال "الدين لله والوطن للجميع" فمسارهم السياسي شبيه بباقي الأقليات وهو الموالاة للوطن وللسلطات الحاكمة واتّباع الأسلم والأفضل من أجل صيان وجودهم
مهما تطوّرت سيناريوهات وتخطيطات الإرهابيّين ومساعديهم ومشجّعيهم في البلاد العربية والغربية بشأن الموحّدين الدروز (وغيرهم من الأقليات)، ومهما كثُرت كتابات وفيديوهات البروباغندا عند جميع الأطراف، فإنّ هويّة الموحّدين الدروز العربية والدينية والجيوسياسية سوف لا تتغيّر. فهويّتهم لا تتمركز في صلة الدم والعاطفة والجماعة وفقط بل، أكثر من ذلك، في أقنوم الروح والعقل والإحسان. وهذا ما يُظهره المنطق والعلم والتاريخ.
وأقنوم الروح والعقل والإحسان يقتضي أن تختلف الآراء والتصريحات بين أبناء وزعماء الموحّدين الدروز. ففي الإختلاف بركة مباركة ترشد وتوجه الطائفة إلى مستقبلها المفضّل.
فما هو ذلك الأقنوم الذي مهما شُرِح لا يُفهم بكامله عن هؤلاء المليون ونصف تقريبًا من الموحّدين الدروز؟ وكيف نجحوا أن يبقوا على هذه الحالة الأقنومية منذ ظهورهم كطائفة توحيدية إسلامية قبل 1000 سنة؟ وهل سيستمر نجاحهم هذا رغم التغيّرات العالمية والإقليمية الطارئة والمُحرجة؟ ولماذا نجح تلصيق كلمة "الدروز" عليهم من إسم أعظم عدوٍّ لهم (نشتكين/محمد الدَرَزي) والذي عرّفوه في تراثهم القديم بإسم "المُلحد الأكبر" و"الضدّ" و"حراميّ الليل"؟ وهل ستعترف جبهة النصرة (وزعيمها أبو محمد الجولاني وغيره) في خطأها عندما أرادت من دروز إدلب أن يتركوا محمد الدَرَزي ويرجعوا للإسلام؟ وكيف يرجع الموحّدون الدروز (وغيرهم) للإسلام إذا لم يخرجوا منه، بل توغّلوا في المعنى الروحي للإحسان وما جاء في الحديث النبوي الشريف في الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان؟
لا توجد أجوبة كافية وشاملة لمثل هذه الأسئلة وإذا وُجدت فلا تسعها المقالات ولا الكتب. ولذلك وجب أن نكتفي هنا بثلاث نقاط رئيسية تدور حول صلة الموحّدين الدروز بالأرض. ولعل مفهومهم للأرض هو نفسه من مفاتيح الأجوبة.
أوّلاً: الأرض والمِحَن العديدة
إنّ توطّن الموحّدين الدروز كان وما زال في سوريا ولبنان وفلسطين/إسرائيل والأردن. وإنّ صلة الدروز العميقة بهذه البلاد عبر التاريخ لم تتغيّر مهما تغيّرت أسماء المناطق/الدول وحكّامها وحكوماتها. فقد نزلت بالدروز المِحَن كبيرها وصغيرها ولكنّهم خرجوا دائمًا من تلك المِحَن بمِنَح الصبر والتفكر والتعقل والتسامح من جهة، وبالحفاظ على أبنائهم وأراضيهم من جهة ثانية. وهذا لا يعني أنّ تضحياتهم في الماضي لم تكن ضخمة، ولا أنّ الثمن بالأرواح والممتلكات الذي بدأوا دفعه في الآونة الأخيرة في سوريا ليس بباهظٍ. فالظاهر من كتاباتهم وخطاباتهم حتى الآن أنهم متمسكون بمبادئهم المركزية، وما صلتهم العميقة بالأرض إلا من هذه المبادئ الأولوية والمقدسة.
ونقصد في "المِحَن" الحروب العدوانية والتدخلات الخارجية التي فُرضت عليهم خاصّةً كدروز، أو بشكلٍ عامّ على مناطق سكناهم مع جيرانهم من باقي الطوائف والديانات. فمن هذه المحن في القرن السابق على سبيل المثال، الثورة السورية الكبرى ضدّ الإنتداب الفرنسي في العشرينات، والصراع العربي- اليهودي على أرض فلسطين في الأربعينات، والحرب الأهلية اللبنانية في السبعينات والثمانينات. وها هم اليوم قد أصبحوا تحت أنياب الحرب الأهلية السورية التي بدأت في سنة 2011، ولكنّها لم تُأثّر عليهم مباشرةً حتى أواخر سنة 2013 في محافظة إدلب في الشمال السوري، وحتى الأشهر الأخيرة في محافظة السويداء ومنطقة حضر في الجنوب. وهكذا صدفةً طُرحت فكرة تهجير دروز سوريا، ومن دون النظر في صلتهم الروحية العميقة بالأرض ومقدرتهم الفائقة على الدفاع عن أنفسهم.
ثانيًا: الأرض والتهجير الجماعي
لقد نجح الموحّدون الدروز في تجنّب التهجير الجماعي الواسع طوال تاريخهم. والواقع أنّ تعلقهم العميق بالأرض يفرض عليهم البقاء في مناطقهم ومزارعهم والدفاع عنها. وهذا موقف دروز سوريا اليوم. فترك الأرض واللجوء الجماعي إلى لبنان أو تركيا أو إسرائيل كما اقتُرح في وسائل الإعلام في الأسابيع الأخيرة غير مقبول على صغيرهم وكبيرهم، فهو يتناقض مع مفهومهم للروح والعقل والإحسان. فمن وجهة نظرهم لهذا المفهوم الأقنومي أنّ الله عزّ وجلّ قدّرهم على البقاء في بلادهم عبر المِحَن السابقة، وأنّ الأرض أمانة عندهم إلى يوم الحساب، وأنّ واجبهم أن يحافظوا على الأرض بأموالهم وأجسامهم وأرواحهم. فالعلاقة بين الروح والعقل والإحسان من جهة ويوم الحساب من جهة ثانية لا يفهمها إلا المتعمّق في علم الروحانيّات وخاصّة عند الموحّدين الدروز والمشارك لهم في حياتهم اليومية عبر العقود المتواصلة.
أمّا إذا أخذنا منطق الإعلامي والسياسي والدنيوي، فالواقع أنّ الموحّدين الدروز سبق وصرّحوا مرارًا في بياناتهم الجماعيّة وآرائهم الفردية في سوريا ولبنان وفلسطين/إسرائيل بالأقوال الشهيرة التي لا تُنسى مثل "أراضينا مقابرنا" و"نحن لا نُقتلع من أرضنا" و"لا نُبتلع ونحن أحياء". والتاريخ يشهد لهم حتى الآن أنّهم حقًّا لم يُقتلعوا من بلادهم ونجحوا أيضًا في صيان وجودهم رغم تكرار العدوان عليهم.
وفي إقتراحات التهجير وفكرة تأسيس "الدولة الدرزية" فقد رُفضت هذه المساعي عبر الأجيال. فعلى سبيل المثال، رفضها الكثيرون من زعمائهم من سلطان باشا الأطرش وشكيب أرسلان وكمال جنبلاط (رحمهم الله) في القرن السابق وإلى كلّ الزعامة الحاليّة في سوريا ولبنان وإسرائيل. والحقّ أنّ هذا الإستنكار الدائم يخرج من الواقع، فمقوّمات ومتطلّبات قيام "دولة درزية" ليست موجودة عند الموحّدين الدروز مهما فُرضت الفكرة عليهم. وإذا اختلفت هذه المحنة عن غيرها من قبل، ومُحِنوا يومًا في "دويلة درزية" فلا شكّ أنّ تلك الدويلة سوف لا تعيش إلا فترة قصيرة. ومن جهة ثانية فالهويّة التوحيدية الدرزية في معدنها روحية وعقلية وإحسانية ولذلك لا تعتبر الإستقلال الذاتي من أهدافها، بل تفرض واجب الولاء الوطني، فواجب العطاء للوطن، فواجب التقدم للطائفة كغيرها في الوطن. وما الدنيا عند أولياء الموحّدين الدروز إلا كما وصفها السيّد المسيح (عليه وإليه الصلاة والسلام) كانت وما زالت "جسرًا"، ووجب أن لا يبنوا "بيتًا"/دولةً عليه.
وإذا تركنا أولياء الموحّدين الدروز جانبًا ونظرنا في موقف دروز سوريا اليوم فقد جاء مثلاً في بيان أبناء محافظة السويداء، وهي المركز الأكبر للدروز عامّةً، ما يأتي عن ولائهم للوطن: "حصانتنا لا تكون إلا بسوريّتنا، وأنّ السويداء هي جزء ...لا يمكن فصله عن سوريا الأمّ". فموقفهم الصعب بين نظام الأسد وإرهابيّة داعش وجبهة النصرة يفرض عليهم بمثل هذه التصريحات لصيان وجودهم. والحقّ والصدق أنّه لا صيان لوجودهم تحت حكم الإرهاب إلا إذا غيّر الإرهاب طرقه. أمّا بالنسبة لقوى المعارضة الوطنية السورية فهي حتّى الآن غير قادرة على إسقاط نظام الأسد، ولا على إخراج الإرهابيّين من سوريا، ولا على توحيد صفوف المعارضة. أمّا إذا نظرنا في تاريخ الموحّدين الدروز عامّةً في وقت الحروب والخلافات فهم معروفون في البقاء في بلادهم وعلى أراضيهم والدفاع عنها حتى يتضح لهم الحاكم الشرعي المعترف به في المنطقة ومن قِبَل الهيئات العالمية.
ثالثًا: الأرض والولاء الوطني
إنّ شعار الموحّدين الدروز كان وما زال عبر الأجيال "الدين لله والوطن للجميع". فمسارهم السياسي شبيه بباقي الأقليات وهو الموالاة للوطن وللسلطات الحاكمة واتّباع الأسلم والأفضل من أجل صيان وجودهم. وهنا وجب ذكر ما يجهله، أو اختار تجاهله، بعض الكتّاب والمراقبين السياسيّين في الإعلام العربي والغربي وخاصّةً في الآونة الأخيرة: وهو أنّ دروز لبنان موالون للدولة اللبنانية، ودروز إسرائيل موالون للدولة الإسرائيلية، ودروز سوريا موالون للدولة السورية. وفي الحالة السورية هذا ما زال يظهر في البيانات والتصريحات الخارجة عن السويداء وحضر ومجدل شمس (مع أنّ الأخيرة تقع تحت السلطات الإسرائيلية منذ حرب 1967، وما زال سكانها يوقّعون في بياناتهم: "أبناء الجولان السوري المحتل").
فالواجب والحقّ أن نتفهّم دروز سوريا اليوم من حيث هم أي من منظور سكان محافظة السويداء، ومحافظة إدلب، وبلدة حضر وباقي بلاد الجولان، وليس من منظور العامل المخابراتي والمراقب السياسي والكاتب الإعلامي في دمشق وبيروت وتل أبيب واسطنبول وطهران ولندن وباريس وواشنطن وغيرها:
فمن جهة أولى، نرجع ونكرر، أنّ صلة الموحّدين الدروز بالأرض عميقة وتترفع عن المعنويّات والدنيويّات. أمّا بالنسبة لتحدّيات الإرهابيّين لهم فقد صرّح الكثير من الدروز في الآونة الأخيرة بأنّ السلوك الغير إسلامي والغير إنساني لداعش وجبهة النصرة ومن مثلهم سوف لا يغيّر صلتهم الروحية بأوطانهم وأنّ الدفاع عن الأرض وعن الوطن حقّ وواجب ربّاني "لا يُباع ولا يُشترى". وهذا الحقّ والواجب لا يفقهه إلا المتمعّن في هويّة الموحّدين الدروز الجامعة، والمتوغّل في تاريخهم الإجتماعي والسياسي والنضالي.
ومن جهة ثانية يرفض الدروز فكرة تقسيم سوريا طائفيًّا مع أنّ هذا ليس في أيديهم، وخاصّةً إذا كان بشّار الأسد يعمل حقًّا على تأسيس دولة علويّة ساحلية كما يقول البعض. والتقسيم الطائفي كان دائمًا ولعلّه ما زال فكرة غربية لا تقبلها أغلبية دول الغرب لأنفسهم، ولم تقبلها بعض الأقليّات وخاصّة الدروز.
ومن جهة ثالثة ما زال نظام الأسد متسلّطًا على أكثر مناطقهم وباستطاعته التخريب والتعذيب والقذف الجوي لقراهم ومدنهم، وقد حصل هذا مرارًا في الماضي. فعناصر النظام تعيش في أوساطهم وتحرث في عقولهم وأحيانًا تتعدّى على ممتلكاتهم. وقد سبق وعوقب أبناء السويداء الكثيرين في سعيهم مع المعارضة أو تشجيعها.
ومن جهة رابعة، تهتم الدول المجاورة وخاصّة تركيا وإسرائيل بمصالحها الأمنية والإستراتيجية وكلتاهما منخرطة في دعم الإرهابيّين بشكل أو بآخر وهذا بسبب الهدف المشترك وهو إسقاط نظام بشّار الأسد، وإضعاف الأكراد (تركيا) وحزب الله (اسرائيل). أمّا أمريكا (وأوروبا) فلم تتحرّر بعد من دعم مصالح تركيا وإسرائيل، وراحت تنسى حربها على الإرهاب، وتتظاهر وكأنّها تحاربه. ولعلّ هذا يتغيّر بتغيّر المصالح والتوقّعات الحاليّة.
ومن جهةٍ خامسة لقد كفّرت داعش وجبهة النصرة الموحّدين الدروز وغيرهم واعتدت عليهم وعلى مزارعهم وممتلكاتهم. ولعلّ مجزرة بلدة قلب لوزة في محافظة إدلب كانت الأخيرة ضدّ الدروز. ولكنّ صاحب التفكير التكفيري سوف لا يتوقف عن المجازر وسفك الدماء حتى يبقى لوحده أمام مرآته. فعندها ينتبه أنّ الحياة حقًّا وحقيقة مملّة جدًا إذا كان العالم كلّه مثله.
البقيعة
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net