البروفيسور جوني منصور في مقاله:
استمرار حكومة تركيا بإنكار مسؤوليتها عن المجازر لا يضمن لها بطاقة تبرئة بالمرّة
لا يمكن للحكومة التركية الحالية واللاحقة المضي بهذا النهج لأن المضي به لا يفسح المجال إلى المصالحة بين الشعبين الأرمني والتركي
إحياء الأرمن ذكرى مجازر الإبادة بحقهم وإحياء الفلسطينيين ذكرى نكبتهم في الوقت ذاته فيه الكثير من الرمزيّة التي تضع الشعبين في مصاف الشعوب المناضلة والمكافحة من أجل حقوقها المشروعة
يصادف اليوم 24 نيسان الذكرى المئوية الأولى لمجازر الإبادة التي لحقت بالشعب الأرمني. ولا بد من الإشارة إلى أن هذه الذكرى تأتي وسط جولات من النقاش والجدال والانكار والاعتراف من قبل أطراف سياسية رسمية مختلفة في العالم.
ولفهم حجم الحدث الذي وقع قبل قرن من الزمن علينا العودة إلى التفاصيل التاريخية التي هيئت الظروف لوقوع هذه الإبادة. حيث أنّ كل طرف من اطراف النزاع يعمل على طرح الحقائق التي تؤيد مواقفه ومطالبه. ولكن ما حصل هو إبادة في جوهره وشكله.
لهذه الإبادة طرفين وهما الأتراك والأرمن. ونعني الأتراك بحسب مفهوم وتسمية ذاك الزمن الدولة العثمانية التي وضع نهاية لوجودها رسميا مصطفى كمال اتاتورك بعد اعلانه عن نهاية السلطنة والخلافة العثمانية.
فالطرف التركي الرسمي أي الحكومة في انقرة لا تعترف بوقوع إبادة للشعب الأرمني، وتنكر وقوعها على يد جنود ومدنيين أتراك في العام 1915، أو في اعوام سابقة. وتم تجنيد صحافيين وكذلك عدد كبير من المؤرخين الأتراك ليبينوا علميًا وواقعيًا أن ما حصل للأرمن سببه الأرمن أنفسهم، ومن وقف معهم، وبخاصة الروس.
الإدعاءات التركية تستند إلى أنّ خلفية ما حصل للأرمن، يرتكز في اساسه على ثورة الأرمن ضد السيادة التركية ودعوتهم – أي الأرمن – إلى الاستقلال عن تركيا. وجاء ذلك في اعقاب انتشار رياح الحركات القومية في اوروبا، وخاصة في البلقان. وحققت شعوب في البلقان أشكالا مختلفة من الاستقلال الكامل وحتى الاوتونوميا(أي الحكم الذاتي). ثم نال الأرمن دعما من القيصرية الروسية التي كانت ترى في الدولة العثمانية حجر عثرة أمام تحقيق مشاريعها في التوسع والانتشار نحو المياه الحارة – الدافئة أي في البحر الابيض المتوسط. ووجدت هذه القيصرية في الشعب الأرمني الأداة التي يمكن ان تحقق بواسطتها هدفها المركزي هذا. لذلك وفرت للأرمن الدعم المالي واللوجستي وغيره. فما كان من حكومة السلطان عبد الحميد (لأن مجزرة بحق الأرمن قد نفذت في عهده في 1894 ذهب ضحيتها عشرات آلاف الأرمن) إلا ورفع سلاحها في مواجهة الثورة والتمرد الأرمني حماية للحكم الشرعي ولتلقين الثوار درسًا.
أما تفسير الحكومة التركية بموت مئات آلاف الأرمن فهو أن الحالة كانت حالة حرب، ويحدث في الحرب ما يحدث في كل حرب من قتل وتدمير وغيره.
لكن هذا التفسير لم يكن وليساه مقنعا لأي فرد أو مجموعة أو دولة على المستوى الرسمي. فمنذ نهاية الحرب العالمية الاولى والأرمن ومن يقف وراءهم داعما قضيتهم يعلنون بصريح العبارة ان الحكومة التركية تتحمل مسؤولية الجريمة الكبرى التي لحقت بهذا الشعب وقلبت حياته رأسا على عقب. وكان مندوبو الأرمن في مؤتمر فرساي في باريس في 1919 قد طرحوا قضيتهم التي لاقت تعاطفًا انسانيًا من قبل الرئيس الامريكي آنذاك ودرو ولسون، لكنها – اي قضية الأرمن – لم تصل إلى مستوى اتخاذ قرار بشأنها يكون لصالح الشعب الأرمني، وذلك لاعتبارات سياسية تخص السياسة والمصالح البريطانية في منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص. وطرحت القضية في عشرات المحافل الدولية وأروقة صناع القرار. لكن إلى اليوم ترفض حكومة انقرا الاعتراف رسميا بتحملها مسؤولية إبادة الشعب الأرمني في العام 1915.
يدعي الطرف الأرمني أن حكومة الأتراك في فترة الحرب العالمية الاولى والتي كانت تقودها جماعة الاتحاد والترقي قد عملت بطريقة منهجية على تصفية جماعية للأرمن. وكان يقف على رأس هذه الجماعة ثلاثة من ابرز قيادات الدولة العثمانية بعد عزل السلطان عبد الحميد، وهم: طلعت باشا، أنور باشا، جمال باشا(وهو غير جمال باشا الملقب بالسفاح). أصدر هؤلاء كمجموعة أو كأفراد اوامرهم إلى الجيش التركي بتجميع الأرمن من قرى شرقي الاناضول وهي منطقة أرمنية تاريخيًا وفعليا، وطردهم. ولكن لم تتم عمليات الطرد دون عمليات اخرى رافقتها وفي مقدمتها فرض الاشغال الشاقة على الرجال، حرق القرى والمقدسات الأرمنية، التجويع، السرقة والنهب والاغتصاب في حالات كثيرة موثقة. وتشير مصادر تاريخية كثيرة إلى قيام الأتراك بحرق قرى بكاملها وبمن فيها، وإلى حرق قوارب بحرية حاول الأرمن الهرب فيها حماية لأنفسهم. وشكل الأتراك مخيمات أو معسكرات لتجميع الأرمن فيها تمهيدا لإبادتهم. كل ذلك حصل خلال الحرب العالمية الاولى، وعلى مدار سنواتها.
لكن الحدث الجلل والرمزي هو ما حصل في 24 نيسان 1915 عندما قامت حكومة الاتحاد والترقي في استنبول بتجميع 250 شخصية أرمنية رفيعة المستوى في استنبول وإعدامهم جميعا. هذه الجريمة شكلت محطة فارقة في الذاكرة الأرمنية، لأنها عبرت عن إبادة جماعية لشعب يعيش ويرزح تحت حكم الدولة العثمانية، وتبعتها عمليات مستمرة للإبادة.
وتمكن آلاف من الأرمن من الهرب وايجاد الملاذ في سوريا وشمال العراق. فسوريا كانت المحطة الكبرى التي استوعبت الأرمن الهاربين من سيف الإبادة، وخصوصا في مدينة حلب الواقعة إلى الشمال منها وقريبة من مواقع الأرمن التي عاشوا فيها. وحلب يسكنها الأرمن من قرون طويلة، ولهم فيها مراكز تجارية ومؤسسات دينية وعامة. ولهم دور بارز في مشهد الحياة اليومي الاقتصادي والاجتماعي. وبعض الأرمن تابع رحيله ومسيره نحو لبنان وفلسطين، وبعضهم نحو مصر.
هؤلاء الذين حطوا رحالهم بعد تهجيرهم واقتلاعهم من مواطنهم الاصلية في فلسطين اتخذوا من عكا وحيفا وشفاعمرو والرامة وكفرياسيف وقرى أخرى في الجليل موطنا جديدا لهم، وبعضهم تابع إلى يافا والقدس وجوارها. ووجد النازحون الأرمن بيئة دافئة وانسانية احتضنتهم واعتبرتهم مكونا أساسيًا من نسيج الشعب العربي في هذه المناطق، ويشهد على ذلك الأرمن انفسهم الذي لا يشعرون بأي غربة في اوساط العرب. واتيحت لي الفرصة قبل سنوات طويلة إلى الالتقاء بعدد من هؤلاء النازحين من جنوب تركيا، واستمعت بتأن وإصغاء شديدين إلى خبرات المآسي والظلم التي لحق بهم، وإلى ذكرياتهم الشخصية المباشرة أو غير المباشرة عن حياة المجتمع الأرمني قبل وقوع جريمة الإبادة. بقاء المأساة متجذرة في قلوبهم ما يؤكد كبر حجمها وكونها حدثا مؤسسا في حياة هذا الشعب الذي يطالب المجتمع الدولي الاعتراف بأن ما وقع له هو بمستوى إبادة وتطهير عرقي.
إن مطالبة الشعب الأرمني من محافل دولية وحكومات دول الاعتراف بالحدث، لا يعني أن حكومة تركيا تعترف بذلك. بل بالعكس فإن هذه الحكومة تستنكر إعلانات وبيانات حكومات في مختلف مناطق العالم والتي تعترف بكون المجازر إبادة. وكان آخرها رفض حكومة تركيا اعلان البابا فرنسيس كونها إبادة.
إن استمرار حكومة تركيا بإنكار مسؤوليتها عن المجازر لا يضمن لها بطاقة تبرئة بالمرّة. فالأمم المتحدة والاتحاد الاوروبي ومؤسسات دولية أخرى، ودول مختلفة اعترفت رسميًا بكونها مجازر إبادة.
الحكومة التركية تحاول التنصل من تحمل مسؤوليتها الاخلاقية والقانونية والتاريخية عن هذه الإبادة وتحمل الشعب الأرمني كامل المسؤولية.
لا يمكن للحكومة التركية الحالية واللاحقة المضي بهذا النهج. لأن المضي به لا يفسح المجال إلى المصالحة بين الشعبين الأرمني والتركي. والمصالحة لا تعني فقط الاعتراف بتحمل الجريمة، وهذه خطوة في غاية الاهمية، بل يعني السعي إلى تصحيح الخطأ.
مقابل ذلك وفي المستوى ذاته، فإنه أصبح لزامًا على المجتمع الدولي التعامل مع النكبة الفلسطينية في العام 1948 بنفس المستوى، حيث بينت البحوث التاريخية الأخيرة وبأقلام المؤرخين الاسرائيليين الجدد كايلان بابي وآفي شلايم وحتى بني موريس (وإن كان قد تراجع عن بعضها) أن جرائم إبادة بحق الشعب الفلسطيني قد وقعت على يد العصابات الارهابية الصهيونية في عام النكبة.
لا تزال حكومات اسرائيل ترفض رفضا قاطعا الاعتراف بمسؤوليتها عن النكبة والجرائم التي رافقتها بحق الشعب الفلسطيني في العام 1948 وما بعده. إن استمرار اسرائيل القاء تبعية ما حصل على الشعب الفلسطيني لن يمنحها بطاقة تبرئة بالمرّة. المحاسبة أمر في غاية الأهمية قبل التوصل إلى أي اتفاق وتسوية بين الشعبين. ويلي ذلك الاعتراف صراحة بتحمل اسرائيل المسؤولية.
ولأن حدث النكبة وحدث المجازر الأرمنية يصادفان في اليوم ذاته، حري بالمجتمع الدولي النظر إلى هذه الجرائم بمنظار جديد، وهو كيفية تصحيح الحدث وإعادة الكرامة إلى الانسان الذي سلبت كرامته على يد منظمات وهيئات وحكومات تعاملت معه بفظاعة لم يشهد مثلها التاريخ البشري.
إن إحياء الأرمن ذكرى مجازر الإبادة بحقهم، وإحياء الفلسطينيين ذكرى نكبتهم في الوقت ذاته فيه الكثير من الرمزيّة التي تضع الشعبين في مصاف الشعوب المناضلة والمكافحة من أجل حقوقها المشروعة، وهذا النضال شرعي لأنه جزء من حقوق الشعوب.
أمام الجرائم التي ترتكبها حكومات اسرائيل بحق الشعب الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، نصرخ بوجه الهيئات الدولية ومؤسسات حقوق الانسان لرفع الظلم عن هذا الشعب وإعطائه حقه الشرعي بإقامة دولته على أرضه.
وأخيرا، اعتقد أنّ تبني مبدأ المصالحة التاريخيّة هو في حد ذاته خطوة نحو تصحيح الوضع والحالة. وكما أشرت فإنّ المصالحة لا تعني فتح صفحة جديدة بالمرة، بل الاعتراف رسميا بالجريمة والإقرار بها، ثم البدء رسميًا بوضع خطوات لتصحيح الوضع وإعادته تقريبا غلى ما كان عليه، وهذا حق معترف به في السنن والشرائع الدولية. هذا ما يطالب به الشعبان الأرمني والفلسطيني.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net