كان يُشاطرني الغرفة في المستشفى حين انتابتني وعكة صحية
رجلٌ يبدو عليه بأنه تجاوز الخامسة والستين من عمره
قضينا سوية أسبوعاً في تلك الغرفة المقيتة ، التي فرضها عليّ وعليه المرض
لاحظتُ خلال هذا الأسبوع قلة عائديه ، أو بالأحرى عدمهم ، فقد ترددتْ على عيادته امرأة واحدة فقط ، تجاوزت الأربعين ، تكهنتُ بأنها زوجته الثانية ولم أُخطئ في حَدسي
ذات ليلة ، وبعدما أبى النوم مصاحبتي ورفضت عيناي بشدة أوامر الإغلاق ، التفتُ إليه محاولاً جذبه لأطراف الحديث :
- عم أبو جمال ، عُذراً على التطفل والسُؤال ، ولكن ألا يوجد عندك أولاد
!؟
تنهّد أبو جمال طويلاً وانهمرت دمعة صامتة-حارقة على خدّه ، احمّر وجهه فخفتُ أن يصيبه مكروه فأحاسبُ نفسي حتى آخر يومٍ في عمري
_ آسف ، عم أبو جمال ، أنا لم أقصد بسؤالي أل
_ لا تتأسف يا بُني ، فسؤالك لم يزعجني ، لأن النَزيف في داخلي قوي وليس بحاجة إلى من يحركهُ
سأقص عليك بإيجاز قصتي وعندها ستزول علامات الاستفهام :
تزوجتُ من امرأتي الأولى قبل حوالي أربعين عاماً
كانت مثال المرأة الفاضلة الصالحة
لا أذكرُ بأنها أغضبتني يوماً ، أحاطتني برعايتها واهتمامها ، فكانت نِعم الزوجة ونِعم الرفيق
أنجبت لي زوجتي ثلاثة أولاد واهتمت بتربيتهم وتهذيبهم وتعليمهم ، لأن العمل أخذ القسط الأوفر من وقتي في ذلك الحين
ولكن قبل عامين لبّت زوجتي نداء ربها
تأثرتُ جداً على فراقِها ، بكيتُ وانفعلتُ ، فقد كانت بالنسبة لي الزوجة والأخت والأم والصديق
ولكن لا اعتراض على حُكم الله سبحانه وتعالى ، فنحن أمانات وله الحق باسترداد الأمانة متى شاء
عشتُ سنتين بعد وفاة زوجتي ولم أفكر بالزواج إطلاقاً، ولكن الوحدة يا بُني بدأت تقتلني يوماً بعد يوم ، فالأولاد ينْصّب جلّ اهتمامهم بزوجاتهم وبنيهم وأعمالهم
كانوا يحضرون لزيارات خاطفة ، فأبقى معظم الوقت أحادثُ نفسي وذكرياتي ، فلا جليس يؤنس وحدتي ولا سمير يُحادثني
داهمني المرض واشتد عليّ ، فزادت حاجتي إلى من يرعاني عن قربٍ
زارني أحد الأصدقاء وما أن شاهد عن كثبٍ أحوالي حتى نصحني بالزواج ، لكي لا أكون فريسة للوحدة وللمرض
علِمَ أولادي بذلك فثارت ثائرتهم وتعالت الأصوات المنددة بهذه الخطوة ، التي معناها في نظرهم نسيان معروف أمهم ونكران صنيعها
ادّعوا بأن زواجي في هذا العمر سيفقدني الاحترام بين الناس في القرية
باختصار ، أرادوا بأن ألبس الكفن وأنا حي وانتظر أجلي المحتوم
ولكن معارضتهم هذه لم تُثنني عن عزمي على الزواج ، فقد جمعتهم ذات ليلة وأخبرتهم بأنني عاقد العزم على الزواج من عزباء من القرية المجاورة ، تبلغ من العمر خمسة وأربعين عاماً
خلال تلك الجلسة حاولت أن أطمئنهم ، فأنا أدري بما تختلجه نفوسهم من الشكوك وأعلم بهواجسهم وأدرك بأن حُب المال ديدنهم ، فأخبرتهم بأن زواجي هذا لن يؤثر على ما سيحصل عليه كل واحد منهم من ميراث ورزق وأموال
وفعلاً ، تزوجتُ يا بُني من تلك العزباء ، التي هي الآن زوجتي الثانية والتي تمكث كما ترى معظم الوقت إلى جانبي في المستشفى
أحمد الله بأنها كالأولى امرأة فاضلة ، صالحة ، ترعاني وتؤانسني في وحدتي وتهتم جداً بصحتي
ولكن بسبب مقاطعة الأولاد لي منذ زواجي سكنَ الألم في جوارحي ومكثَ الحزن في صدري فاشتد المرض عليّ وأُدخلتُ المستشفى قبل أسبوع ، وكما ترى لم يأتِ أحدٌ من أولادي لزيارتي
- وهل يعلم أولادك أنك في المستشفى ؟
- نعم، يعلمون ولكن
سكت أبو جمال ، فقد اختنقت الكلمات في حنجرته
قررتُ حينها أن أضع حدّاً لهذه المحادثة خوفاً عليه وعلى نفسي
غداة اليوم اشتدّ المرض جداً على أبي جمال
كان المسكين يئن أنيناً يقطّع القلوب
جلستْ زوجته طيلة الوقت بجنبه ولم تُفارقه ولو للحظة واحدة ، محاولة التخفيف والمواساة
فجأة سمعته يحادث زوجته بكلماتٍ تخرجُ بشق الأنفس:
- نجاة ، قولي للأولاد بأنني مسامحهم من قلبي على كل ما فعلوا
- لا تُرهق نفسك بالحديث يا أبا جمال ، المهم الآن صحتك وسترجع معافى إلى البيت بإذن الله
- أشعر يا نجاة بأن ساعة الفُراق قد حلّتْ
نجاة
سلّمي على الأو
ولم يستطع أبو جمال أن يُكمل جملته ، فقد لفظَ أنفاسهُ الأخيرة
استدعت نجاة الأطباء بسرعة ، ولكن لم يبق َ أمام هؤلاء إلا أن يُقدّموا لها العزاء
أجهشت في البُكاء قائلة بصوت ٍأبح:
- الله يرحمك يا أبا جمال ويجعل مأواك الجنة ويُسامح أولادك!!!
بادرت نجاة بالخروج من غرفة المستشفى ، وما كادت تخطو بضع خطوات ، وإذ بهم يتراكضون
رفعت رأسها، موجهة نحوهم نظرات عتاب عبر عينين متجمرتين ، وقالت من فمٍ مُبلّل بالدموع :
- حضرتم !؟
- ماذا حدث ؟ لماذا تبكي ؟ ما بك ؟ ماذا حدث لأبينا؟
- أبوكم ؟ الآن فقط تذكرتم بأنه أبوكم ؟ لقد تأخرتم جداً على "أبيكم"! حضرتم ولكم بعد فوات ألأوان ! وقبل أن أفارقكم وإلى الأبد أيها "الأبناء " أريد أن أقول لكم بأن أباكم يسامحكم من قلبه على ما فعلتم
فقط ادعوا الله سبحانه وتعالى – لعلّه يغفر لكم
دخل الأولاد إلى غرفة أبيهم ، أمّا نجاة فعادت إلى قريتها تحمل ذكريات أجمل سنتين في عمرها