أعترف بشعور الترقّب والتردّد الذي اعتراني حين أمسكتُ بمجموعة نسب حسين القصصيّة الجديدة "أوراق مطر مسافر" الصّادرة عن دار الجندي للنّشر في القدس وهممتُ بقراءتها، وهو تردّد في الحقيقة نابع من خيبة أمل كنت قد أُصبت بها عقب قراءتي لمجموعتها القصصيّة الأولى مراوغة الجدران التي نشرتها عام 2009، إذ افتقرت تلك المجموعة إلى العديد من المميّزات الفنيّة التي تتطلّبها القصّة، ولم تُوفَّق الكاتبة في شدّ القارئ وجرّه إلى خضمّ المشكلة التي تعالجها القصّة والشخصيّات. وأذكر أنّني قلت وقتها في نفسي: ليت هذه الفتاة لم تتسرّع في النّشر.
ولكن، هذه المرّة، أنهيت قراءة قصص مجموعة أوراق مطر مسافر بفرح خفيّ، أكّد شعوري آنذاك بأنّ هذه الفتاة لا بدّ أن تتطوّر وأن تُبدع!!
إنّ أكثر ما يستدعي الانتباه في قصص هذه المجموعة هو نجاح نسب في تجاوز القيمة الشكليّة للقصّة إلى القيمة الدّلاليّة، التي خلقت بدورها وحدة الأثر التي تحدّث عنها الكاتب الأمريكي "أدجار ألان بو" وأكّدها كعنصر يُميّز القصّة القصيرة عن الرّواية التي لا يمكن أن تخلق لدى قارئها أثرًا واحدًا فقط.
كما أنّ نسب نجحت في شدّ القارئ لقصص هذه المجموعة بتوظيفها لبدايات مشوّقة، إذ كانت واعية لأهميّة عنصر البداية في النصّ الأدبيّ ودوره الكبير في جذب القارئ للنصّ أو إبعاده عنه. وبدايات قصص هذه المجموعة امتازت بغالبيّتها بجمال المفردة وإيقاعيّة الحركة ورسم المشهد، كما في بداية قصّة وهم قصيدة: "دقيقتان.. والنبض في صدرها يزداد.. تشعر بقشعريرة.. أو بتنميلة في أطرافها.. ويسقط من عمر الانتظار ربع دقيقة.. تتذكّر خلالها قصيدة، تبحث عن إلقائها بصوت شاعرها على شاشة الهاتف النقّال.. عمر القصيدة أطول بدقيقة من عمر الانتظار المتبقّي. ستسمعها.. لعلّها تعزّيها بما لاقى صاحبها يوم كتبها، حين خانه انتظاره ورفض الانتحار".
ونسب تستمدّ قصصها من الواقع المعيش، وهو أمر نلمسه بوضوح في المواضيع المطروحة في نصوصها المختلفة، حيث يبرز إلتزام الكاتبة بقضايا الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلّة وفي داخل إسرائيل والتّعبير عنها في قصصها، حين تُصوّر واقع الظّلم الذي يعيشه الإنسان الفلسطينيّ بأسلوب سلس وبكلمات عاديّة بعيدة عن الشّعارات العالية والهتافات الصّاخبة، ممّا يوصل الفكرة المُرادة إلى القارئ بعفويّة ومن دون تكلُّف، كما نشهد ذلك مثلاً في الكلمتين اللّتين نطقت بهما بطلة قصّة فوق الرّكام وخلف الدخّان تعبيرًا عن تألّمها من الحرب: "بدنا نعيش". وهما كلمتان تُلخّصان واقع الحياة اليوميّ حيث جند الاحتلال يُضيّقون عليهم سُبُلَ العيش ويحرمونهم لذّة الحياة، كما أنّهما إشارة أيضًا إلى رفض الفلسطينيّ لأعمال القتل والدّمار واستعداده للعيش بسلام، بل وإيمانه التّامّ بإمكانيّة حدوث ذلك.
من جهة أخرى، نجد الكاتبة في قصّة خيمة وكأنّها قد قطعت الأمل ببناء جسور التّواصل بين الشّعبين الفلسطينيّ واليهوديّ عندما تُعبّر عن مدى الألم والقهر الذي يعانيه الفلسطينيّ ولا يشعر به الآخر- الإسرائيليّ، فلا تلاقٍ في المشاعر بينهما ولا توافق. والكاتبة تتألّم من هذه النّتيجة التي توصّلت إليها في نهاية قصّتها ونستدلّ على ذلك في قولها: "حدّقتُ في عينيّ الفتاة رأيتُ شبح بسمة، وفيما رحتُ أحاولُ ردَّ دمعة عن عيني.. قالت: "سليخا"، وسارت كلّ منّا في مسار".
وفي قصّة وميض عند الهاوية تطرح نسب فكرة عدم فقدان الشّعب الفلسطينيّ الأمل بعودة الأرض، وتشبّثِهِم بالحُلُم وعدم الاستسلام. كذلك قصّة أحلام صغيرة.. دروب ضيّقة تعكس مدى الظّلم الواقع على أبناء الشّعب الفلسطينيّ واستمرار مأساته التي بدأت منذ النّكبة عام 1948 وما زالت مستمرّة حتى يومنا هذا، تعاني منها الأجيال المتعاقبة.
وفي قصّة أمل تُصوّر نسب مدى بشاعة تأثير الحرب على فئة من الشّعب لدرجة فقدانه الأمل وانتظاره الموت. فالمرأة في هذه القصّة استشهد زوجها، ففقدت طعم الحياة ولذّتها، وهنا، تُثير الكاتبة عاطفة القارئ عن طريق الطفلة "أمل" التي لا تكلّ السّؤال عن والدها وموعد عودتِهِ. وهذا المشهد: "الأم والطفلة" هو مشهد مُتكرّر. وهنا تكمن المأساة، فأعمال القتل والدّمار لا تتوقّف، وهي مستمرّة من جيل إلى جيل.
وتميّزت قصّة أشياء لم يُجمّدها الصّقيع بعد بطرحها لفكرة واجب المثقّف الفلسطينيّ نحو شعبه ووطنه بأن يبقى بينهم ويعملَ على تنوير عقول أفراد شعبه وحمايتهم من الأفكار المُضلِّلة، وبثّ أهميّة حبّ الوطن والتّمسّك به في نفوسهم.
مقابل الهموم الكبرى والقضايا العامّة التي تبدو الأكثر بروزًا في قصص المجموعة، عالجت نسب الهموم الاجتماعيّة وأضاءت جوانبَ من حالات النّفس البشريّة، كما في قصّة شجرة الزّنزلخت والتي نعتبرها أجمل قصص المجموعة، وتُصوّر فيها الكاتبة تلك العلاقة الحميمة والرّابط الشّعوريّ العميق الذي ينشأ بين الإنسان والمكان.
وتتعرّض في قصّة عودة من الغياب إلى قضيّة الطّلاق والتّبعات السّلبيّة لانفصال الوالدين على الأبناء. وفي قصّة عبق لزمن عابر تطرح قضيّة المرض وتأثيره على نفسيّة المريض، الذي يشرع بالانعزال عن الناس تفاديًا لنظرات الشّفقة. وهي قضيّة من صميم الواقع، وفيها دعوة من الكاتبة إلى أهميّة وجود الثّقة والمحبّة بين الناس، ومواساتهم الصّادقة لبعضهم البعض في أوقات الضّيق والمرض.
أمّا قصّة وصايا الياسَمين ففيها إشارة واضحة إلى قرية الرّامة، وهي قرية الكاتبة، التي عانى سكّانها في السّنوات الأخيرة من الشّعور بفقدان الأمان جرّاء أعمال العنف التي حدثت. والكاتبة في هذه القصّة تُوجّه نقدًا ولومًا صادقًا لأبناء قريتها الواقفين مكتوفي الأيدي إزاء ما يحدث على لسان "أم خليل" في قولها: "أنا بعرف إنو أهل البلد مرّات بحسّوني غريبة.. وبتحاشوا التّعامل معي.. بس أنا بستنّا تَيِصْحوا.. كلّهم بحكوا عن الأشباح وعن زعلهم من ورا الأبواب المسكّرة.. الاشباح ما تدخل وما بتعيش لحالها غير إذا إحنا منترِكِلْها محلّ تفوت منّو..".
وبالنّسبة لقصّة رسالة بين البحر والصحراء نستطيع إدراجها ضمن النّوع الادبيّ "القصّة القصيدة" والذي يُعرف في الدّراسات الأدبيّة بالكتابة عَبْر النوعيّة، وذلك حين يمتزج الشّعر بالنّسيج القصصيّ. فالكاتبة نجحت في اجتراح بعض التّعابير الجميلة والصّور ذات الإيحاءات المتعدّدة بتوظيفها للغة شاعريّة كما في الاقتباس التّالي: "لقد بدت العاصفة يومها تهبّ من صوب البحر.. ظننتُني نجَوْتُ..لكن سرعان ما علمتُ أنّني صرت في عمقها، حين راحت تنطلق هذه المرّة من بين نوافذ قلبي.. فحرتُ إلى أين أذهبُ..؟ أأعود إلى البحر لتتماهى عاصفتي بين عواصفه فلا يراها أحد..؟ أم أبقى متخفية خلف الصخور إلى أن ترحل العاصفة؟"، "لست أدري كيف أخذنا الطوفان.. ومن أين جاء بك؟ وكيف جمع تيهنا في دوامة واحدة..؟
تلوب فوق أرض البحر والصحراء وتمضي بعيدًا..
تتركني أحدّق في عينيك.. وأبحرُ في حدود بسمتك سعيدة.. لكن شيئًا فشيئًا يضيق الخناق.
أسألك أأكثرنا العبث في تربة البحر والصحراء حتى استفاق الاعصار..؟ ماذا حصل؟ وكيف الهرب؟".
وبعد، لسنا ندّعي هنا أنّ جميع قصص المجموعة تستحقّ الاهتمامَ والثّناء، فهناك بعض المآخذ التي سجّلناها لنسب في البعض من قصص المجموعة كالتّطويل في الحوار الذي يمنع من القارئ إمكانيّة الاستنتاج والتّخمين، وغيرها من المآخذ التي، وعلى الرّغم من وجودها، فقد بقي الانطباع الإيجابيّ والمُرضي هو المُسيطر على قصص هذه المجموعة.
وختامًا، نجحت نسب حسين في هذه المجموعة بكتابة القصّة القصيرة واستيفاء جميع عناصرها، ولكنّ الأهمّ من ذلك، هو الطريقة التي تعاملت بها مع هذه العناصر، ونجاحها في شدّ القارئ وجعله مدفوعًا إلى طروحاتها ومُندمجًا بهمومها.
الرامة
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net