د. رَباب سِرحان:
العمّ الغالي في كلّ مرّة أُعاتب فيها الموت وألومه على هذا الألم الكبير الذي سبّبه رحيلك
أرى صورتك تلوح في الأفق وألمح ابتسامتك التي لم تُفارق وجهك أبدًا فترتسم على شفتيّ ابتسامة وأجدني أُردّد كلماتك "تتبدّل الأوراق من آنٍ لآن، لكنّ جَذع السّنديان
لأوّل مرّة أشعر بنفور بين أصابع يدي اليمنى والقلم. فهي تأبى السّماح له أن يتّخذ مكانه الصّحيح بينها. ويا لهذه المشاعر المختلطة والمتناقضة التي تجتاحني، حين يصرخ كلّ ما بداخلي بحاجتي الماسّة لأن أكتب عن العمّ سميح أو أن أكتب إليه.. وأن أُخرج ما بداخلي من مشاعر فاض بها قلبي ولم يعُد قادرًا على احتوائها.
ولكن، لماذا أنا لستُ قادرة على الكتابة؟ ألأنّني لم أستوعب بعد حقيقة غيابكَ؟ ولا أستطيع تصوّر الحارة والقرية وحتى العالم بدونك؟ أيُمكن للموت أن يسلب الحياة هذا الإنسان؟ بل كيف تجرّأ حتى على الاقتراب من شخصك المهيب؟ وتُعاودني كلماتك:
"أنا لا أحبّك يا موت
لكنني لا أخافك
أعلم أنّي تضيق عليّ ضفافك
وأعلم أنّ سريرك جسمي
وروحي لحافك
أنا لا أحبك يا موت
لكنني لا أخافك."
لم أستطع تمالك نفسي ومنع دموعي عن السّقوط حين علا صوتك، يوم الجنازة مع بدء المسيرة، يملأ فضاء قريتك الرامة التي أحبَبْتَها وأحبّتْكَ وأنت تُنشد لها:
"اسمك العالي سماء الأبجديّة فاحضني الدّهر وضمّي الأزليّة
رامتي يا قصّة خالدة أبدًا تُتلى، فخارًا وحميّة"
وكانت هي اللّحظة الأولى التي أصطدمُ بها مع حقيقة موتك. هل هذا الصّوت الذي يتغلغل إلى العظام رحل؟ هل هذا الرّجل الذي لن يتكرّر لم يعد بيننا؟ وأدركتُ للحظة الخسارة الفادحة... ولكنّ ألمي وحزني لم يمنعاني من السّير منتصبة القامة ومرفوعة الهامة.. فأنا أسير في جنازة أغلى النّاس، وهو مَن جعل رؤوسنا شامخة.. لن أخذله ولن أضعف. وسرعان ما تلاشت حقيقة موتك من ذهني حين سمعتك تُرحّب بالمشيّعين وتشكرهم على تكلّفهم مشقّة المجيء من أقاصي البلاد للمشاركة في تشييع جثمانك. عندها ابتسمتُ ابتسامة الناجي من الموت وقلتُ في نفسي: نعم هذا هو العمّ سميح.. لن يخذلني.. هو أبيّ على الموت. هذا هو صوته وهو موجود بيننا:
"يطيب لي الآن أن أٌجزل الشّكر، من كلّ قلبي القويّ
لكلّ الوفود التي احتشدت من أقاصي البلاد لتشييع
جثمان شخصي الضعيف...".
حين زرتُ بيت أهلي قبل بضعة أيّام، وجدتُ نفسي أقف قبالة بيت العمّ سميح القريب جدًّا من بيت أهلي وأُحدّق به وأحاول استيعاب رحيله عنه، وأنّه ليس جالسًا الآن على كنبته المعهودة يلاعب حفيده الصّغير أو يُتابع نشرات الأخبار أو يلعب "الشيش بيش" مع والدي ويتحدّثان في أمور الأدب. وقْفتي طالت وعقلي لم يستطع تخيّل غير ذلك، وحين أردتُ تصوّر البيت دونه سمعت صوت ابنتي: "ماما، ماما يللاّ".
وحين دخلتُ بيتي الذي وُلدتُ وتربّيتُ فيه وجدتُ والدي جالسًا على الأريكة وحده. أُقسم أنّ الكلمات كادت تفلت من لساني: "كيف تنّك مش عند عمّي سميح؟" وشعرت بغصّة شديدة. فحزني وألمي لفقدان العمّ سميح يقابلهما حزني وألمي على والدي رفيق دربه المخلص أبدًا، والذي أعرف أنّ الحياة بالنّسبة إليه، بعد وفاة العمّ سميح، لن تعود كما كانت عليه قبل ذلك.
أحاول أن أستعيد شخص العمّ سميح للحظة. كيف استطاع هذا الإنسان أن يجمع كلّ هذه المحبّة حوله؟ لن أتحدّث عنه كشاعر.. فهو أمر مفروغ منه. هو شاعر العروبة والمقاومة والوطن، وهو شاعر الإنسانيّة والعدل والحريّة. أمّا كإنسان، فكان يُذكّرني في كلّ مرّة أراه بها بالأصالة العربيّة: البشاشة والتّرحاب، احترام الصّغير والكبير، الكرم، المحبّة، الثّقة بالنّفس، التّواضع.
أذكر حين دقّ جرس هاتفي وسمعت صوته يُهنّئني على نيل شهادة الدكتوراة.. كنت أستمع لكلماته الجميلة كما يستمع العاشق لكلمات
أغنية تُجسّد حالة العشق التي يعيشها. وحين أبدى إعجابه بمقالة أدبيّة نقديّة كنتُ قد نشرتها في جريدة الإتّحاد، علّقْتُ كلماته وسامًا على جدران قلبي. كم نفخر بك ونعتزّ بانتمائنا لكلّ ما تننمي إليه.
خسارتُنا، وخسارة الأمّة العربيّة برمّتها كبيرة. ولكنّك الغائب الحاضر أبدًا بما خلّفته من إرث شعريّ وأدبيّ وإنسانيّ راقٍ. وعلى الرّغم من هذه الحقيقة المُعزِّية، إلاّ أنّنا سوف لن نستطيع تجاهل الواقع الأليم الذي سيُذكّرنا دائمًا بعدم وجودك بيننا، في بيتك، في الحارة، في أعراسنا، في مآتمنا..
العمّ الغالي، في كلّ مرّة أُعاتب فيها الموت وألومه على هذا الألم الكبير الذي سبّبه رحيلك.. أرى صورتك تلوح في الأفق وألمح ابتسامتك التي لم تُفارق وجهك أبدًا، فترتسم على شفتيّ ابتسامة وأجدني أُردّد كلماتك "تتبدّل الأوراق من آنٍ لآن، لكنّ جَذع السّنديان...".
الرّامة
2014/9/22
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net