أعلنت عقارب الساعة عن تمام الساعة السادسة مساء ، فأسرعتُ بارتداء ملابسي ، لكي لا أتأخر عن الموعد الذي انتظرته منذ ساعات الصباح ، بل منذ أيام عدة . هاتفتُ صديقي " أبو المجد " وأبلغتهُ بأنني سأكون عنده بعد خمس دقائق ، بإذن الله. انتظرني صديقي خارج بيته وارتجلنا باتجاه القاعة التي سيُقام فيها الحفل . لقد اخبرتُ صديقي منذ ساعات الصباح بأنه من الأفضل التوجه إلى القاعة سيرًا على الأقدام ، متوقعًا بان لا نجد موقفًا شاغرًا بسبب كثرة المدعوين المشاركين في الحفل ، وفعلا صدقَ حدسي ، فقد امتلأت الشوارع المحاذية للقاعة بالسيارات...
شققنا طريقنا إلى داخل القاعة ووجدنا بصعوبة مجلسًا في آخر القاعة ، لأن القاعة غصت بالمدعوين . فاتني أن أذكر بان هذا الحفل لم يكن حفلا عاديًا – فهو حفل تأبين لأحدى الشخصيات الهامة في مدينتنا ، والذي وافته المنية قبل مدة.
بدأ الحفل الذي حضرهُ معارف الفقيد وأقرباؤه وأصدقاؤه من مدينتنا وخارجها ، حيث رثى عريف الحفل الفقيد وذكر مناقبه ، مُنوهًا إلى عظيم الخسارة لفقدانه ، ومن ثم تلاهُ في الحديث ركبٌ من الخطباء ، الذين انتقوا أجمل العبارات وأكثرها بلاغة من أجل ذكر خصال المرحوم ، مؤكدين على دماثة أخلاقه وحُسن سيرته وحبه للعطاء و...
تطايرت كلمات المديح والرثاء والثناء في سماء القاعة ، وبدون أن أدري أخذني تفكيري إلى الماضي القريب ، وأخذتُ أتذكر ما حلّ بالمرحوم في الفترة الأخيرة . فقد كان المغفور له ، وبالفعل ، رمزًا للجود وللسخاء وللكرم ، فساعد القريب والبعيد ، مدًّ يد العون للمعارف وللأصدقاء ، ولم يبخل بعطائه على الأقرباء . لم يصدّ ابدًا سائلا ولم يسدّ الطريق أمام من طرقَ بابه طالبًا المساعدة ، حتى أطلق عليه أهل مدينتنا لقب " أبو حاتم " ، مع ان ابنه البكر لم يُدعى حاتمًا...
لكن ...
وضع "ابي حاتم " المادي تدهور في الآونة الأخيرة ، وتراكمت عليه الديون . توجه " أبو حاتم " إلى المعارف والأصدقاء طالبًا المساعدة ، متوسلا أن ينقذوه من هذا المأزق المادي ، واعدًا أن يعيد هذه الديون عندما يتحسن الوضع ، فلم يجد مساعدًا ولا نصيرًا ... لقد انفض عنه الجميع ، باحثين عن شجرة أخرى تكسيها الأوراق ليتظللوا بظلها ، أما هو فقد أصبح كالشجرة العارية التي تساقطت أوراقها في فصل الخريف ، فلا ظل يرجى منها ولا ثمر ...
واجه " أبو حاتم " بسبب هذه الأزمة حالة نفسية صعبة ، متذكرًا بألمٍ وبحسرةٍ الأيام الغابرة ... أخذ يتذكر الأيام السالفة حينما كان يطلب من زوجته أن تعدّ أفضل وأجود وأفخر طاولات الطعام ، والتي دعا إليها " الاصدقاء و " الأصحاب " ، تذكّر الرحلات إلى خارج البلاد ، والتي كان يشاركه فيها رفاقه ، فكان يتكفل بجميع تكاليف السفر ، تذكّر السهرات وتذكّر وتذكّر ...
تدهورت حالة " أبي حاتم " النفسيّة ، وانعكس ذلك أيضًا على حالته الصحيّة ، والتي ساءت جدًا خلال فترة زمنيّة قصيرة ، ولم يستطع فؤاده تحمل ما رأت عيناه من نكران للجميل وغدرٍ وخيانةٍ - فأودع الروح إلى بارئِها...
- قُمْ يا صديقي ، قُمْ ، ما بك ؟! لقد انتهى الحفل ... خاطبني أبو مجد.
- لا شيء يا صديقي ، لا شيء ، فقط "حسدتُ " أبي حاتم " على هذا الكم من المعارف والأصدقاء و "حسدته " على كلمات الثناء والإطراء التي سمعتها... هيا بنا يا عزيزي ، هيا...
بدأنا بمغادرة القاعة التي سيطرت عليها السكينة واجتاحها الهدوء ، وقبل أن أخرج نظرت إلى صورة كبيرة " لأبي حاتم " وُضِعت في مركز القاعة . بدون أن أشعر ابتعدتُ عن صديقي " أبو مجد "واقتربتُ من الصورة . دققتُ النظر في عينيه وبدأتُ ألفظ كلمات لم يفهمها سواه :
إذا قلّ مالي فما خلٌ يصاحبني
وفي السيادةِ كل الناسِ خلاني
فكم عدو لأجل المال صادقني
وكم من صديقٍ لفقد المال عاداني...
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net