مارون سامي عزّام في مقاله:
لم أقرأ في تاريخ البشريّة ولم أسمع أن ثمّة عيدًا للمشاعر الصّادقة بين أي عاشقَين يُحتفل به سنويًا لم أصادف أبدًا لغطًا ولخبطةً في اسم عيد ما إلا في هذا العيد المفبرك
كلمة "عشّاق" لم تعُد كلمة عابرة بل ارتفع سَهمها في سوق التداولات الشّبابيّة وهي تنتمي فقط لأصحاب الذّوق الرفيع والأنيق في الحب!!
كسَح جيل اليوم الرّومانسية كل ما تبقّى من أطلال العشّاق دفن جمرة اللوعة المتأجّجة، تحت الأرضواندمجت مع خطوط البنية التحتيّة للإنترنت، فحوّل روعة الحب إلى شّبكة عنكبوتيّة رومانسية لاسلكية
وجبات الحب السريعة يتناولها يوميًا معظم طلاّب المدارس على مقاعد الدّراسة مع زميلاتهم بالصّف في ساحات المدارس أو خارج جدرانها فيتخرّج بعضهم مع شهادَتَين الأولى المدرسية مذيّلة برخصة القيادة والثّانية شهادة تؤهّلهم للزّواج!
لغة الحب لم تعُد عربية النشأة لم تعُد شرقيّة الملامح لم تعُد ربيبة نُبل الأخلاق والتصرّفات الشهمة مفاهيمها غربية لم يعُد للأحاسيس قيمة معنويّة
بعد أن فَقَد العشق رمزيّة الشوق بات اليوم يفتقد إلى زمن اللهفة جعله هذا الجيل مجرد برنامج داخل جهاز الكومبيوتر كبديلٍ عن تأجج نار الحرقة داخل عقولهم
نحن نعيش أجواء ثورة عشقيّة جديدة، فَرَضَت نظامها العِشقي على العشّاق عَبر الفيس بوك، فتبنّوا مضامين هذه الشّبكة الاجتماعية، وكتبوا على حائطها، شعارات مؤيّدة لهذه الثورة! ونجحوا في جعل الإنترنت زعيمهم المفدّى! بحجّة أنّهم "ملّوا" من وصاية نظام الاشتياق التقليدي عليهم، فخلعوا الرّومانسية من قلوبهم، بعد أن كان نظام الاشتياق فارضًا عليهم وصايته دون مُنازع طوال عقود من الزمن، لأنّه حثّهم بالماضي على الرّضوخ لدستور احترام سرّية المشاعر.
كلمة حب
إستعدادات أصحاب المحلاّت المكثّفة لهذا الحدث الجلل!! فرصة سانحة لا تعوّض، كي يعزّزوا ثرواتهم، وكجزء من إستراتيجيّتهم المادية الخفيّة، لتحريك ركود مبيعاتهم، ففرشوا للعائمين فوق بحر من المشاعر الوهميّة! القلوب الحُمُر، كاحمرارهم خجلاً عندما يشترون الهدية لفتياتهم! رغم أنّه بينهم وبين الخجل تفصل مسافات من الوقاحة والجسارة وقلّة الأدب، إن مفهوم الخجل بالنسبة لهذا الجيل، هي صفة الإنسان الغشيم الخارج عن الموضة الغراميّة الرّقمية الآخذة بالتطور يومًا بعد يوم!!
لم أقرأ في تاريخ البشريّة ولم أسمع، أن ثمّة عيدًا للمشاعر الصّادقة بين أي عاشقَين، يُحتفل به سنويًا، لم أصادف أبدًا لغطًا ولخبطةً، في اسم عيد ما، إلا في هذا العيد المفبرك، لقد عُرِفَ هذا العيد بـ"عيد الحب"، فكلمة "حب"، كانت معمّمة، ليس لها خاصّية معيّنة، يعني كانت "نكِرَة!" مُبعدة عن جزيرة أحلام بعض الشّبّان، إنّما مع بداية الألفيّة الثّالثة استُبدل الاسم بـ"عيد العشّاق"، لأن كلمة "عشّاق"، لم تعُد كلمة عابرة، بل ارتفع سَهمها في سوق التداولات الشّبابيّة، وهي تنتمي فقط لأصحاب الذّوق الرفيع والأنيق في الحب!!
جيل اليوم والرومانسية
كسَح جيل اليوم الرّومانسية كل ما تبقّى من أطلال العشّاق... دفن جمرة اللوعة المتأجّجة، تحت الأرض، واندمجت مع خطوط البنية التحتيّة للإنترنت، فحوّل روعة الحب إلى شّبكة عنكبوتيّة رومانسية لاسلكية، عشّشت في كل منزل... في كل مجمّع شرائي... في كل محلٍ! هكذا انتقل الحب من القلوب إلى الحواس، مثلاً عَبر حاسّة اللمس، تجد أنامل معظم أبناء هذا الجيل، تقفز برشاقة متناهية فوق أجهزتهم، ليدردشوا مع من يحبّون... ليشاهدوا عبر حاسّة النّظر صور من يحبّون وقتما يشاءون، بالتواصل معهن عبر موقع الفيس بوك، ليسمعوا عبر حاسّة السّمع أصوات فتياتهم، من خلال الهواتف الذّكيّة! إذًا ما شاء الله، اللهفة الغرامية "ضاربة أطنابها" 24 ساعة في اليوم و7 أيام في الأسبوع!!
ألا يُدركُ هؤلاء الشباب والفتيات أنّ ثقافتهم الرومانسيّة مبتذلة، إلى أن جعلوا الحب خاليًا من الإحساس الحقيقي بمتعة الشوق لمن يحبّون... قلوبهم لم تعُد تنبض فرحًا، لمجرّد أنّهم لمحوا بطرف أعينهم بمن يهيمون، متواجدين في محيط بيئتهم... أغاني الحب الهادئة التي كانت تُعبّر بالماضي عن أحاسيس المحب، بتنا نفتقدها اليوم، فقط نسمع صخبًا إيقاعيًّا، كصخب إيقاع عيش هذه الأيّام المليء بأزيز الانشغال اليومي... المليء بصرير أحاديث الشّبّان العبثية الفارغة من أي مضمون، كمضمون كلمات أغاني حب هذه الأيّام!!
رومانسية المقاهي
وجبات الحب السريعة، يتناولها يوميًا معظم طلاّب المدارس على مقاعد الدّراسة مع زميلاتهم بالصّف، في ساحات المدارس أو خارج جدرانها، فيتخرّج بعضهم مع شهادَتَين الأولى المدرسية مذيّلة برخصة القيادة، والثّانية شهادة تؤهّلهم للزّواج! ضِف إلى ذلك الاحتفالات الأسبوعيّة أو الشهرية بأعياد الميلاد، حيث ملتقى القلوب الفتيّة المراهقة الحالمة في سن مبكّرة "بعريس الغفلة"! فكل هذه المستجدّات ساهمت كثيرًا في جعل العديد من أبناء هذا الجيل يعتقد أن الحب التقليدي رجعي التفكير... أنّه أصولي الفكر، وليس له أصول تشريعيّة.
من هنا انبثقت رومانسيّة حديثة، تُسمّى رومانسية المقاهي المخصّصة طوال العام لجميع النّاس وخاصةً للعشّاق، أجواؤها تبعث في نفسيّتهم روح التناغم الحسّي بينهم!! تناغُم يدفعهم نحو الانطلاق عفويًا، لحضور "حفلة طربيّة" صاخبة!! غالبًا ما تكون خالية من الذوق الطّربي يُقيمها أحد سماسرة الحفلات، فيُحضِر أحد نجومنا المحليّين، الذي لم يأتِ ليقدّم فروض الولاء للمحتفلين بعولمة الرومانسية، بل كي يشكر قادة ثورة الإنترنت عبر الشّبكات الاجتماعية، على المجهود الكبير الذي بذلوه، في نشر الإعلانات الملوّنة، ذات نَص دعائي لبِق للغاية، لحضور الحفلة
مهما ثار الشبان والفتيات عبر انتفاضة النت، اللقب "النّغش" الذي أطلقوه على الإنترنت!! إلاّ أن مجتمعنا لن يعترف بهذه العولمة السخيفة، ولن يؤيّد فكرة الاحتفال بِعيد الحب الدّخيل، الذي جعل الرّومانسية الخجولة تندثر تحت رماد فضح المشاعر علانيّةً! لأنّ سفينة العولمة الفضائيّة، حملت جيلاً بأكمله، بعيدًا عن أرض العُرف والأصول.
لغة الحب، لم تعُد عربية النشأة... لم تعُد شرقيّة الملامح... لم تعُد ربيبة نُبل الأخلاق والتصرّفات الشهمة... مفاهيمها غربية؛ لم يعُد للأحاسيس قيمة معنويّة. بعد أن فَقَد العشق رمزيّة الشوق، بات اليوم يفتقد إلى زمن اللهفة... جعله هذا الجيل مجرد برنامج داخل جهاز الكومبيوتر، كبديلٍ عن تأجج نار الحرقة داخل عقولهم، لأنه مليء بأوكسيد زمن الألفية الثالثة الخانق... زمن العشق الفوري والمستعجَل...!
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net