د. يوسف جبارين في مقاله:
الإعلان طرح للمرّة الأولى دوليا توجهًا حقوقيا معمقًا ومفصلاً حول حقوق الشعوب والمجموعات الأصلية
الإعلان بحاجة الان الى تحشيد مشروع دولي جدي لترشيد السياسات الدولية والمحلية وفق ما يتضمّنه من حمايات حقوقية منشودة
أربعة حقوق جماعية أصلية في صلب الإعلان: الحق في الإدارة الذاتية الحق في الأرض والحقوق التاريخية الحق في اللغة والحق في الشراكة في صناعة القرار
الثالث عشر من أيلول (اليوم)، هو الذكرى السنوية السادسة لإعلان الامم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الاصلية، والذي طرح، وللمرّة الأولى أمميا، توجهًا حقوقيا معمقًا ومفصلاً حول حقوق الشعوب والمجموعات الأصلية. وفي الحقيقة، فان بروز نصوص حقوقية لحقوق المجموعات القومية والثقافية واندماجها في الخطاب الحقوقي الدولي يُعتبر تطورا جديدا نسبيًا، تبلور رسميا في العقدين الأخيرين. فحتى العام 1992، حين أصدرت الأمم المتحدة إعلانها بشأن حقوق الأقليات، لم تخصَّص أي وثيقة حقوقية دولية لهذا الشأن حصريا. وفقط في العام 2007 أقرت الأمم المتحدة إعلانها الخاص بحقوق الشعوب الأصلية. ومما لا شك فيه أنّ ثمة حاجة دائمة إلى العديد من المسوحات والأبحاث لفهم اسقاطات هذا الخطاب على أرض الواقع، والتعمق في مساحات تطبيقه.
لقد خبر الخطاب الدولي بشأن حقوق الأقليات وحقوق الشعوب الأصلية على مدار العقود الأخيرة تحوّلات كثيرة. ففي منتصف القرن العشرين أبرز الخطاب مبادئ عدم التمييز، والمساواة، ودمج الأقليات، ثم بدأ الخطاب يتعاطى تدريجيا مع الظروف الخاصة للأقليات الأصلية ومع احتياجاتها ذات الخاصية. وأشير في هذه العجالة إلى أربعة حقوق جماعية أصلية في صلب الإعلان العالمي الاخير: الحق في الإدارة الذاتية، الحق في الأرض والحقوق التاريخية، الحق في اللغة، والحق في الشراكة في صناعة القرار.
الحق في الإدارة الذاتية
كان الإعلان بشأن حقوق الأقليات من العام 1992 قد تناول مجموعة من الحقوق الجماعية، إلا أنّ الصياغة كانت ضبابية إلى حدٍ كبير، ولم تمنح الأقليات الأصلية نوعية الإدارة الذاتية التي طالبت بها، أي تلك التي تتيح لها مواصلة العيش بموجب هويتها الجماعية، وثقافتها وموروثها. وبالمقابل، فإنّ أحد أهم وأفضل إنجازات إعلان حقوق الشعوب الأصلية من العام 2007 هو إبراز موضوع الإدارة الذاتية وحق المجموعات الأصلية في إدارة حياتها بشكل حر ومستقل. ويمنح الإعلان الحق في الحكم الذاتي في مجالات السياسة، والقضاء، والاقتصاد والمجتمع والثقافة، مع التشديد على حق الشعوب الأصلية في أن تحتفظ بنظمها أو مؤسساتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتطورها. وبموجب الإعلان فإنّ" للشعوب الأصلية الحق في إقامة نظمها ومؤسساتها التعليمية والسيطرة عليها وتوفير التعليم بلغاتها، بما يتلاءم مع أساليبها الثقافية للتعليم والتعلم". كما ويقضي الإعلان بأنّ "للشعوب الأصلية الحق في أن يعبر التعليم والإعلام تعبيرا صحيحا عن جلال وتنوع ثقافاتها وتقاليدها وتاريخها وتطلعاتها". ومن الأهمية بمكان التأكيد هنا أنّ هذا الحق لا ينطوي على أي تنازل أو تراجع عن الحقوق القومية-السياسية التي تستحقها المجموعة على مستوى الدولة، ويؤكد الإعلان انّ "للشعوب الأصلية الحق في الحفاظ على مؤسساتها السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتميزة وتعزيزها، مع احتفاظها بحقها في المشاركة الكاملة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للدولة".
الحق في الأرض والحقوق التاريخية
تشكّل علاقة الشعوب الأصلية بمكان جغرافي معيّن أحد مركبات كونها شعوبًا أصلية. وعليه فيمكن الجزم أنّ الحق في الأرض هو قضية القضايا بالنسبة لهذه المجموعات. ونجد في الإعلان قولاً صريحًا بأنّ "للشعوب الأصلية الحق في الجبر بطرق يمكن أن تشمل الاسترداد أو، إذا تعذر ذلك، التعويض العادل والمنصف والمقسط، فيما يخص الأراضي والأقاليم والموارد التي كانت تمتلكها بصفة تقليدية أو كانت بخلاف ذلك تشغلها أو تستخدمها، والتي صودرت أو أخذت أو احتلت أو استخدمت أو أضيرت دون موافقتها الحرة والمسبقة والمستنيرة". وينصّ الإعلان على أن "يقدم التعويض في صورة أراض وأقاليم وموارد مكافئة من حيث النوعية والحجم والمكانة القانونية أو في صورة تعويض نقدي أو أي جبر آخر مناسب". ويؤكد الإعلان أنّ "على الدول أن تضع آليات فعالة لمنع أي عمل يهدف أو يؤدي إلى نزع ملكية أراضيها أو أقاليمها أو مواردها، أو أي شكل من أشكال نقل السكان القسري يهدف أو يؤدي إلى انتهاك أو تقويض أي حق من حقوقهم". ولا يكتفي الإعلان بتثبيت حق الشعوب الأصلية في الحفاظ على ملكية وحيازة وطرق استخدام أراضيها، بل يدعو الدول إلى الاعتراف بعادات الشعوب الأصلية المعنية وتقاليدها ونظمها الخاصة. كما يلزم الاعلان الدولة "أن تتشاور وتتعاون بحسن نية مع الشعوب الأصلية المعنية من خلال المؤسسات التي تمثلها للحصول على موافقتها الحرة والمستنيرة قبل إقرار أي مشروع يؤثر في أراضيها أو أقاليمها ومواردها الأخرى".
الحق في اللغة
وحظيت الحقوق اللغوية أيضًا بحصة بارزة في الإعلان، فهو يضمن للشعوب الأصلية "الحق في إحياء واستخدام وتطوير تاريخها ولغاتها وتقاليدها الشفوية وفلسفاتها ونظمها الكتابية وآدابها ونقلها إلى أجيالها المقبلة". وينسجم هذا مع تعليمات للدول لضمان حماية هذا الحق واتخاذ تدابير لضمان منالية الإجراءات السياسية والقانونية والإدارية. كما يكفل الاعلان للشعوب الأصلية الحق في تسمية الموارد المجتمعية المحلية والأماكن بأسمائها الخاصة والاحتفاظ بها. ويقرّ الإعلان بحق الشعوب الأصلية في التواصل وبناء علاقات مع مجموعتها القومية الواسعة. ومن الأهمية بمكان الإشارة في هذا السياق إلى دعوة الدول إلى الامتناع عن "أي عمل يهدف أو يؤدي إلى حرمان الشعوب الأصلية من سلامتها بوصفها شعوبا متميزة أو من قيمها الثقافية أو هوياتها الإثنية"، وعن "أي دعاية موجّهة ضدها تهدف إلى تشجيع التمييز العرقي أو الإثني أو التحريض عليه".
الحق في الشراكة في صناعة القرار
يقر الإعلان بوجوب إتاحة المشاركة الجدية للشعوب الاصلية في مجمل الموارد العامة، وبإلزام الاجسام الحكومية والعامة بتطوير وتطبيق منظومات مشاركة فعلية لممثليهم، بغية ضمان وجود سبل عملية وناجعة لمعالجة قضاياهم ومصالحهم وهمومهم. ويدعو الإعلان الدول إلى اتخاذ إجراءات فاعلة لمكافحة الاقصاء الذي تعانيه هذه لمجموعات، بما في ذالك من خلال الشراكة والتشاور الحقيقي مع ممثليها. وتنطوي هذه الخطوات على واجب مشاركة الشعوب الاصلية في عملية تعيين الممثلين عنهم، بغية ضمان مشاركتهم المتكافئة في بلورة آليات الشراكة العينية، وفي إشراك قادة جماهيريين معترف بهم في جميع مراحل اتخاذ القرار، وخصوصًا القرارات ذات التأثير على مجموعة الأقلية. ويضمن الإعلان للشعوب الأصلية الحق في "المشاركة في اتخاذ القرارات المتعلقة بالمسائل التي تمس حقوقها من خلال ممثلين تختارهم هي بنفسها ووفقا لإجراءاتها الخاصة، وكذلك الحق في حفظ وتطوير مؤسساتها الأصلية الخاصة بها التي تقوم باتخاذ القرارات".
إجمال اولي
بناءً على ما تقدّم، يحمل إعلان العام 2007 في طياته فرصًا كبيرة لتدعيم المجموعات الأصلية - غالبها بالطبع لم يُستنفد بعد. يخطو هذه الاعلان بالأقليات خطوة جدية نحو ممارسة حقها كأقلية وطن. وإذا ما قورن هذا الإعلان بإعلان حقوق الأقليات الصادر عام 1992، فإنّ إعلان العام 2007 يوسّع ويعزّز بشكل ملحوظ من مطالب مجموعات الأقلية لإحقاق حقوقها في الساحة الدولية، ويوفّر لها دعمًا هي في أمسّ الحاجة إليه. إنّ الاعتراف بالحقوق المذكورة أعلاه وممارستها، كما يكفلها وينصّ عليها الإعلان، هو بمثابة مطلب أساس للمجموعات الأصلية، وخطوة أساسية لتطوير مكانتها وأوضاعها. وهي كلـّها قضايا حاضرة بقوة في الخطاب الحقوقي لدى الشعوب الاصلية. من هنا يكتسب الإعلان صلة وثيقة بكل ما يتعلق بتطوير وتعميق خطاب الحقوق الجماعية. ويشكّل الإعلان، عمومًا، وثيقة شاملة ونافذة تعبّد الطريق أمام دعم نضالات الشعوب الأصلية في مختلف أرجاء العالم. وعلاوةً على قيمته الدولية، فإنّ قوّة الإعلان تكمن في قدرته على التأثير في الخطاب على الساحات المحلية. إذ يعزّز الإعلان من مطالب المجموعات الاصلية في السياقات المحلية ويمنحها المزيد من الشرعية القانونية والأخلاقية والدعم الدولي المطلوب. ومما لا شك فيه أنّ الإعلان بحاجة الان الى تحشيد مشروع دولي جدي ومتكامل نظريا وعمليا، لترشيد السياسات الدولية والمحلية وفق ما يتضمّنه من حمايات حقوقية منشودة.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net