عبد عنبتاوي في مقاله:
كارثة الشعب الفلسطيني بدأت ما قبل عام 1948 ولكن ما حدث من تطهير عرقي جماعي هو الأكبر في تلك السنة يُسمى جِزافًا بالنكبة
أعتقد أن "الله" لَمْ يُشارك في النكبة ولكن تَمَّ استحضاره واستخدامه وقد استخدمه الجاني والضحية على حدٍ سواء ولكن في اتجاهات مُعاكسة
يمكن تقليص مساحة المؤثِّرات الجانبية أو الهامشية كالعاطفة والإنفعال والموروث والمنقول في التعامل مع شؤون تتطلب مِنَّا أقصى درجات الجرأة والعمق والتجرُّد
يمكن أن نتصرف ونسلك "بإعتدال " لكن يجب أن نفكر بمنطق العقل ومعاييره التي لا حدود لها ومن ثَمُّ التحرك وفقًا لمقتضيات الصراع والواقع
المشروع الصهيوني مُتواصل ويجري تنفيذه يوميًا في النقب والمدن الساحلية وفي المثلث والجليل دون أدنى شك وهذا "المشروع" يتمظهر بأشكال وأدوات وتشريعات مُتعددة الأطياف
إذا كانت الأمور الآنية قد عجزت عن استكتابنا، إلاَّ في سياق الضَّرورات، فإن بعض الأمور والقضايا التي تتجاوز الأبعاد الآنية ، إلى ما قبل وما بعد الراهن، تدفعنا دفعًا إلى التأمل بها وفيها، وتناوُلِها في سياق خَيارات العقل... وعلى الرغم من إشكاليات أدوات العقل، وما تحمله من نَسَقية في التحليل والإستنتاجات، وما فيها من مؤثِّرات إنفعالية وعاطفية جرّاء " الإنتماءات والهُويّات"، فإنه من الممكن، باعتقادي، إعمال العقل وتفعيل أدواته بما يتجاوز العقل نفسه. بمعنى أنه يمكن تقليص مساحة المؤثِّرات الجانبية أو الهامشية، كالعاطفة والإنفعال والموروث والمنقول، وحتى الإنتماء أو الهوية أو الذاكرة، في التعامل مع شؤون تتطلب مِنَّا أقصى درجات الجرأة والعمق والتجرُّد، في سبيل صناعة المستقبل عبر فهم الماضي وإدراك الحاضر...
الإعتدال
انطلاقة واضحة وبسيطة وإنْ بَدَتْ مُركَّبة، أضِف إليها أنَّ " الإعتدال " في التفكير هو خيانة للعقل، وتبرير الضعيف لغياب إرادته .. أي أننا يمكن أن نتصرف ونسلك "بإعتدال "، لكن يجب أن نفكر بمنطق العقل ومعاييره التي لا حدود لها ، ومن ثَمُّ التحرك وفقًا لمقتضيات الصراع والواقع، على أنْ نسعى دائمًا لتوسيع حَيِّز " الممكن " ، وأن نبقى دَوْمًا نسعى نحو" المستحيل "... واستنادًا إلى تلك الذهنية، أتناول هنا والآن، قضية نكبة شعبنا الفلسطيني، في ذكرى مرور 65 عامًا على " بداياتها " ، من جوانب تجعل فِعْل الكِتابة عملاً ديونيسيًا مجيدًا، من خلال رسائل سريعة عابرة للجغرافيا والزمان وحدود الكلمات، ولا نهائية..
وأُشير هنا، أيضًا ، أنني لا أرغب بالتعرض للموضوع من باب الاستعراض المعرفي والمعلوماتي، والذي بات مَمْجوجًا بتفاصيله الدراماتيكية وخطوطه السيزيفية المكوِّنة للمشهد، سيِّما أن المعرفة المعلوماتية لا تصنع بالضرورة تفكيرًا، إذا لم تتدفَّق في حركة نهر التأمل والتفكُّر والنقد والعمل،لأن رُكود المعرفة يُحوِّلها إلى مجرد مُستنقع آسن ..!؟
ثَمَّة مواقف يمكن الاتفاق حولها، وقراءات يُمكِن الموافقة عليها.. فقد نتفق أن النكبة حدث مُؤسِّس للقضية الفلسطينية، وإزالة آثار وإسقاطات هذا " الحدث " شرط ضروري، يترتب عليه تحقيق أي شكل من أشكال السلام العادل أو النسبي، كحلِّ لهذه القضية.. معنى ذلك أن فِعل العودة إلى الوطن يُجسِّد ذلك الشرط الضروري للسلام أو أبرز تجلياته، وليس التمسَّك بمجرد " حق العودة "، فالمشروع الأساس هو العودة كحق وليس أحَقية العودة...
ويمكننا أن نتفق، أننا أمام هذه الذكرى من النكبة، وليس على النكبة أو للنكبة. أي أنَّ حقيقة ديمومة النكبة واستمراريتها لا رَيْب فيها ... وبهذا المعنى فإن النكبة ترافِق الشعب الفلسطيني، ليس في ماضيه فحسب، وليس كذاكرة جماعية فقط، إنما في حاضره أيضًا . وهذا الأمر لا يتبدَّى كواقعٍ في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس حصرًا. فإذا كانت النكبة تعني الكارثة أو التطهير العرقي بتعبير أدَقّ، فإن ذلك " المشروع الصهيوني" مُتواصل ويجري تنفيذه يوميًا في النقب والمدن الساحلية، وفي المثلث والجليل، دون أدنى شك، وهذا "المشروع" يتمظهر بأشكال وأدوات وتشريعات مُتعددة الأطياف، لكنها تصبّ في النهاية في المشروع ذاته، وللغايات عينها. فالنكبة إذن ،تعني كارثة وجودية وطنية وقومية للشعب العربي الفلسطيني، بَدَأت بتطهير عرقي فَجّ عام 1948، لكنها لم تتوقف عند ذلك التاريخ، في إطار هذا التعريف... والتطهير العرقي هنا يعني إرتكاب جرائم القتل والإبادة والتدمير و/ أو التهجير القسريّ من الوطن..
التهويد
وجوهر المشروع المتواصل هو: تهويد الأرض – المكان، وأسْرَلَة الفلسطيني – الإنسان. وأسْرَلة مَنْ بَقوْا في وطنهم، لا يعني تهويدهم طبعًا، ولا يعني جعلهم مواطنين اسرائيليين، بل مَسخ شخصيتهم ومصادرة هُويتهم الوطنية وتحويلهم لكائنات هُلاميّة وآميبية لا مواطنية لديها، تفكّر وتسلك بعقلية وذهنية اسرائيلية دونِيَّة... ومحاولة هذه الأسْرَلَة تتَبدَّى في معظم مَناحي الحياة، وبأشكالٍ عِدَّة، منها عبر المنهاج التدريسي الرسمي، الذي يعتمد التشويه والتعتيم والتجهيل والعَدَمية الوطنية والقومية حتى لو كان مُعرَّبًا ، ومن خلال مشاريع كالخدمة " المدنية" ، على سبيل المثال لا الحصر، لا سيّما أن جهوزيتنا البُنيوية للتأقلم مع الواقع المفروض والأسرلة والدونية، لا حدود لها، بالرغم مما أنجزناه من بقاء وصمود وتطور في الوجود والوعي..!!؟
وفي هذا المفصل من القول، دعونا نتفق على ما قد نختلف عليه أو حوله، أو ما قد نتباين في توصيفه وفي استشرافه.. ودعونا نعطي الأشياء معناها وقيمتها، بعيدًا عن الإنفعال، ودون الإفراط في التشاؤم الكافكوي، الذي يعتبر أكثر تفاؤلاً من الواقعية الإنهزاميَّة، أو العقلانية الوهمية...
فليس ما نَدَّعيه هنا إمعانًا في جلد الذات الجماعية، أو تذويتًا للهزيمة والضعف، إنما إصرارًا على التمرد العقليّ والإرادي على واقع تريدنا شروطه أن نُراوح على حالنا ... إن كارثة الشعب الفلسطيني بدأت ما قبل عام 1948، ولكن ما حدث من تطهير عرقي جماعي هو الأكبر في تلك السنة يُسمى جِزافًا بالنكبة .. ولا بد من الإشارة هنا الى قدرتنا " غير الطبيعية" في تقبُّل الأشياء والمصطلحات والمُسَمَيّات المنقولة والموروثة على ما هي، دون التمعُّن فيها وتفكيكها عند الحاجة، وإعادتها الى جذورها المؤسِّسة. وما أقصده هنا أبعد من المعنى اللُّغوي والفيللوجي للكلمات والمصطلحات ، فنوعية استخدام المفاهيم تُدلل على العقلية والطريقة التي نُفكِّر ونسلك بموجبها ...
فقد كان من أوائل وأبرز مَنْ أطلقوا اسم النكبة، على تلك الكارثة، المؤرِّخ والمفكر القومي العَلماني قسطنطين زريق ، كما جاء في كتابه " معنى النكبة " . وامتاز زريق بكونه من رُوَّاد المدرسة النقدية العربية، ومن الداعين إلى إعمال العقل في المجتمعات العربية والنضال ضد الأوهام في سبيل الحرية والتحرر..
وللمفارَقة أدّعي، أن زريق ( وغيره من الباحثين والمؤرخين والمفكرين.. الى يومنا هذا )
لم يُعمِل عقله جيدًا في هذه الحالة، أي في إطلاق تسمية النكبة، ومن ثمَّ ترسيخها في الذهنية العربية كما جاء في كتابه الآخر" معنى النكبة مجددًا"...
معنى النكبة
ومن الجدير الانتباه، أن زريق، كما يقول هو بذاته، اعتكف بُعيد النكبة في بيروت لتدوين أفكاره وانفعالاته، وفي مدة لم تتجاوز الاسبوع كتب كتابه " معنى النكبة ". وهنا تتجلّى المؤثرات الانفعالية الغاضبة في إطلاق تسمية " النكبة "، والتسرُّع في استخدام المصطلحات والتسميات التي لا تتماثل مع هَوْل الحَدث وحقائقه وخلفياته المؤسِّسة .
وبالرغم من أن مضمون الكتاب المذكور عقلي ونقدي، خصوصًا للذات الجماعية، إلاَّ أن التسمية حملت من المخاطر والكارثية ما لا يحتمله العقل، وما لا يتناغم مع بعض مضامين الكتاب.. فالنكبة تحمل، في تركيبتها اللُّغوية وفي إيحاء معناها بُعدًا قَدَريًا ثيولوجيًا، وكأنها ضربة رَبّانية أو كارثة طبيعية.. وقد أسْهَب الباحث والمؤرخ إيلان بابِه في كتابه " التطهير العرقي في فلسطين"، في إثبات عكس ذلك .. وامتدادًا لاستنتاجات بابِه، وغيره من غير العرب والعرب ، فإن مُصطلح النكبة، لا يعكس حقيقة ما جرى، ولا يستحق تسميةً لتلك الكارثة، مهما حاول بعض " المجتهِدين" من الإدّعاء أنه بالرغم من صحة ذلك فقد " حَمّلْنا مفهوم النكبة أبعادًا سياسية ووطنية وقومية عبر مسيرتنا النضالية ، ما يتجاوز الأبعاد القَدَرية "!!؟؟
أعتقد أن " الله" لَمْ يُشارك في النكبة، ولكن تَمَّ استحضاره واستخدامه، وقد استخدمه الجاني والضحية على حدٍ سواء ولكن في اتجاهات مُعاكسة ..!!
يُضاف الى ذلك أن النكبة بمعناها الحقيقي والجذري، فكريًا وسياسيًا، تَحْمل في طيّاتها إعفاء الفاعل والجاني من تَحَمُّل المسؤولية وتَبِعاتها، وبالتالي التحرُّر مِنْ عِبء الإدانة وما يترتب عليها، وهو الأمر الأخطر ...
كما أن التسمية تعفي، ضمنًا، الضحية من المسؤولية أيضًا وتُخرِج الذات الجماعية من حقيقة الفعل الارادي واللاإرادي المُمَهِّد ، ثقافيًا وسياسيًا ومجتمعيا، لما حدث عام 1948، وهذا الأمر لا يقل خطورة إذا ما أردنا فعلاً إيقاف نزيف " النكبة "..!!
إذن ، علينا إعادة فتح ملف النكبة جِديًا، من حيث التسمية ودلالاتها، ككارثة وكجريمة تطهير عرقي، ومن حيث العلاقات السببية بين الذاتي والموضوعي، وعدم التردد في قراءة وفهم واستيعاب العوامل الداخلية للحدث، تلك العوامل التي ما زالت بجوهرها، لا بشكلها، ماثلة فينا وأمامنا ومن حولنا...
فغياب العقل في الوعي ، وأُفول الإرادة في العمل يُشكِّلان العنصرين الاساسيين، وليسا الوحيدين، في تشكيل الوعي الجَمْعيّ، الذي لا يرتقي الى مستوى الصراع او التحديات... ولا يجوز أن نَرْهَن الحاضر والمستقبل في زِنزانة الماضي، حتى لو كان هذا الماضي زاهيًا، فكم بالاحرى عندما يكون نَكْبوِيا... كما أن الماضي ليس مادة معرفية وَحَدَثية مُجردة، إنما مادة للإدراك وطاقة لشحن الحاضر نحو المستقبل ... وفي هذا السياق، لا بُد من بعض الإشارات السريعة الى عدد من القضايا المرتبطة بالموضوع...
النكبة وحق العودة
فلم يجر التوقف مَليًا عند إحدى أهم المحطات التاريخية للجماهير العربية الفلسطينية، الباقية في وطنها، عندما أخْرجت الخطاب الجماعي لرواية " النكبة وحق العودة "من قُمقم الوعي، حين أحْيَت للمرة الاولى الذكرى الخمسين للنكبة عام 1998 ،عبر مسيرة العودة في قرية صفورية الجليلية المهجّرة، وأفْرَجتْ بذلك عن الرواية وعن المصطلح، دون ان يعني ذلك ان تلك الرواية لم تكن حاضِرة في الوعي ما قبل هذا التاريخ ...
وفي الجانب الراهن من الحالة " النكبوية " المتواصلة، فإن الشعوب والأُمم التي تقرر أن السلام هو خَيارها الاستراتيجي والوحيد، ليس في السياق الإسرائيلي فحسب، فإنها تدعو ضمنًا الى الانتحار الجماعي دون أن تفقه أبجديات الحياة وديناميكية التطور ومعنى الوجود...
وفي نهاية تلك الإشارات العاجلة، حاليًا، والتي يتطلب كل منها وقفة مُنفصلة ومُتَّصلة، أرغب في التأكيد على عدد من الاستنتاجات والنتائج .. أولها، علينا أن نميِّز بين الاعتراف بوجود إسرائيل ( كواقع موضوعي !!)، وبين حق إسرائيل في الوجود. ثانيًا، أن الحق لوحده لا يضمن لصاحبه الانتصار بالضرورة، لا في الحرب ولا في السِلم...
ثالثًا، أن الحتمية التاريخية وَهْم في غياب إعمال العقل وتفعيل الإرادة المؤثرة في صناعة التاريخ والفِعل الإنساني ..!؟
وأخيرًا، حين يكون الفكر خارج إدراك الضرورات، يفقد مُبررات وجوده واستمراريته، والفكر الذي لا يهدم لا يعرف البناء، وما قصدته هنا هو محاولة للبناء..
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net