الياس خوري في مقاله:
بعد "الجزيرة" ولدت "العربية" واستطاعت المحطتان احتكار الإعلام السياسي في العالم العربي وخصوصا بعد الفورة الإعلامية التي صاحبت انطلاق الثورات العربية
الثورة السورية يجب أن تُقرأ أولا بوصفها ثورة شعب ضد الإستبداد والنهب واستباحة الوطن والمواطن وهي ثورة صنعها السوريون وحدههم بلا أي دعم خارجي في البداية
هدف الشعب الذي احتل الشوارع والساحات في العالم العربي هو الحرية والديموقراطية ولا أظن أن أحدا يصدّق أن دولا لا تزال تُحكم بمنطق عدم وجود دستور مكتوب تستطيع أن تكون قيادة للثورة الديموقراطية
لا شك أن تأسيس محطة "الجزيرة" القطرية كان ثورة إعلامية كبرى في العالم العربي. فقد نشأت "الجزيرة" في لحظة انهيار الإعلام في مركزيه في المشرق العربي: مصر في الكوما المباركية التي أخرجتها من اللعبة، ولبنان تحت الهيمنة السورية، التي حولت إعلامه الى كانتونات طائفية. جاءت الثورة الإعلامية من حيث لم يتوقعها أحد، فبعد تراجع الصحافة اللبنانية، وعجز اللبنانيين والمصريين عن التفاعل مع الثورة الإعلامية التي صنعتها الأقمار الصناعية، ولد الإعلام الخليجي، بحلة ليبرالية، وبمهنية عالية مقتبسة عن مهنية ال"بي بي سي"، وبنبرة سياسية لم يألفها أحد.
إعلام ديكتاتوري سخيف
بدت المسألة في البداية أشبه بالأعجوبة، ونجحت هذه الأعجوبة في فرض إيقاعاتها. صار للعرب "سي أن أن" خاصة بهم، وعمت نفحة طازجة من الحرية. وبعد "الجزيرة" ولدت "العربية"، واستطاعت المحطتان احتكار الإعلام السياسي في العالم العربي، وخصوصا بعد الفورة الإعلامية التي صاحبت انطلاق الثورات العربية. ورثت الفضائيتان الدور الذي لعبته إذاعة "صوت العرب" في زمن مضى، لكنهما كانتا صوتا بدون وهج الناصرية ومشروعها السياسي. وبدا أن هذا الإعلام لا هدف له سوى إدخال العرب في الحداثة وفتح الباب أمام إعلام ديموقراطي يتخطى الممنوعات التي فرضتها الأنظمة الديكتاتورية من جهة، والإعلام الأمريكي المسيطر من جهة ثانية. لكن سرعان ما بدأ هذا الوهم في التراجع، عبر بروز نبرة إسلاموية واضحة، وعبر مجموعة من البرامج السياسية-الدينية التي احتلت الشاشة. وهنا برز الدور الخاص الذي يلعبه الشيخ القرضاوي، بفتاويه السياسية والدينية، وتأكد أن البراءة "الديموقراطية" كانت تخفي مشروعاً غير واضح المعالم، يقوم ببناء تحالف إسلاموي جديد مع الولايات المتحدة، عبر تخطي الآثار السلبية الناجمة عن أحداث 11 ايلول/سبتمبر، الدموية. غير أن هذه النبرة الإسلاموية لم تؤثر على شغف الجمهور العربي بهذا الإعلام الجديد، لأن هذا الجمهور كان محروما من الإعلام، في ظل هيمنة إعلام ديكتاتوري غبي وسخيف على مجمل شاشات الأنظمة العربية. فتغاضى عن النبرة الإسلاموية، لأنه وجد أصواتا ليبرالية أيضا، ومواقف داعمة للمقاومة ضد الإحتلال الإسرائيلي.
نظام إستبدادي
كان لا بد من انفجار الثورات العربية، كي تبدأ الأمور في اتخاذ أشكالها الواضحة. ولعل الثورة السورية بكل التعقيدات التي تحيط بها، شكلت مدخل هذا الإنكشاف، الذي سوف يتبلور أيضا في الصراعات المصرية التي تدور بعد تفرّد "الإخوان" بالسلطة. لم يكتف النظام الإستبدادي في سورية بمنع الإعلام المستقل من دخول البلاد، معتقداً أنه يستطيع من خلال ذلك حجب حقيقة الثورة الشعبية الكبرى التي عمت المدن والأرياف، بل حاول منذ البداية تعهير الإعلام، وفبركة إعلام كاذب في مواجهة الإعلام البدائي الذي صنعه المناضلون السوريوين من خلال كاميرات هواتفهم النقاّلة، وعبر الفيسبوك. ونجاح نظام الإستبداد في سورية أنتج بلبلة إعلامية، ما لبثت أن عمت، بحيث أضاع المشاهد القدرة على اكتشاف الحقيقة، بل وبدت الحقيقة وكأنها الضحية الأولى لهذه البلبلة.
وسرعان ما بدأت الأوراق تنكشف، وبدا أن المشروع القطري في "الجزيرة" هو تسييد الإسلاميين ودعم الإخوان في كل مكان. بينما ساد الإرتباك الإعلام السعودي، بسبب العداء التقليدي بين الإخوان والوهابية من جهة، وبسبب عدم قدرة التيارات السلفية التي تدعمها المملكة السعودية على تشكيل بديل سياسي للتيارات الإخوانية والليبرالية واليسارية، من جهة ثانية.
"صوت العرب" الجديد
ولكن ما هي المشكلة؟ لماذا لا يحق لـ "الجزيرة"، أن تكون "صوت العرب" الجديد، أول "العربية" أن تكون صوت الدفاع عن الديموقراطية؟ المشكلة تكمن في مسألتين: الأولى أن هدف الشعب الذي احتل الشوارع والساحات في العالم العربي هو الحرية والديموقراطية، ولا أظن أن أحدا يصدّق أن دولا لا تزال تُحكم بمنطق عدم وجود دستور مكتوب، تستطيع أن تكون قيادة للثورة الديموقراطية! والثانية هي أن لا قطر ولا السعودية تستطيع أن تكون قطبا وحاضنا لمشروع ثوري جديد مهما كانت هويته. فأنظمة الخليج المحافظة جدا، والتي تقوم سلطتها السياسية على تراتبية دقيقة لا يمكن المس بها، وعلى سلطة فقهية لا يمكن زحزحتها، لا تستطيع أن تقدم نموذجا للشعوب العربية، التي كسرت طوق الإستبداد بحثا عن أفق ديموقراطي ووطني. وقد برز الخلاف بين المشروع الإخواني الذي تدعمه قطر وبين المشروع السعودي الداعي الى الإستقرار إبان الثورة المصرية، حيث حافظ الدعم السعودي لحسني مبارك على موقفه حتى النهاية. أما التلاقي اليوم فقد بدأ بسبب الرعب الذي أصاب الجميع من انتفاضة البحرين، وفي الحساب الجيوسياسي، الذي اعتبر إسقاط الأسد جزءا من الحرب التي تُخاض ضد ايران الخمينية.
ماذا يعني هذا الكلام؟
هل يعني أن علينا، خوفا من النفوذ الخليجي المتنامي، أن نعيد النظر في تقييمنا للثورة السورية؟ الثورة السورية يجب أن تُقرأ أولا بوصفها ثورة شعب ضد الإستبداد والنهب واستباحة الوطن والمواطن. وهي ثورة صنعها السوريون وحدههم، بلا أي دعم خارجي في البداية. فالدعم الخارجي سواء أكان سياسيا أو ماليا أو إعلاميا أو تسليحيا، لا يصنع ثورة. وهذا ما يجب أن تعيه أطياف المعارضة السياسية، كما عليها أن تعي أن الداخل هو المقياس الوحيد، وأن صراعات السلطة والتفرد والنفوذ ليست اليوم سوى معيقات إضافية وأدوات تطيل في عمر النظام المحتضر. هذا لا يعني أن لا تستفيد الثورة من الدعم الممكن سواء أكان عربيا أو دوليا، لكن عليها أن تعرف أن سورية هي قلب المنطقة، وأن عليها أن تتصرف بوصفها ممثلا لشعب أعطى المنطقة والعالم نموذجا لا مثيل له في الصمود والمقاومة. أما مسألة تداعي الإعلام العربي وتهافته، فتطرح سؤالا ليس على الإعلام وحده بل على المبنى الثقافي العربي برمته، الذي عليه أن يواكب النبض الثوري العربي، ويعيد صوغ نفسه في مراكزه الكبرى، أي في مصر وسورية وتونس. هنا يكمن التحدي الذي اذا لم تستطع النخب الديموقراطية صوغ أجوبة عليه، فإنها تكون في صدد إضاعة أكبر فرصة ثقافية عربية منذ عصر النهضة.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجي إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net