نَـذًرتُ لِعَينِـها عَينـاً تَـرِقُّ
وَفِــي الأضـلاعِ خَـفًّاقـاً يَـدُقُّ
وَجُدتُ بِمَا يَجُودُ بِهِ شُعُورٌ رَهِـيـفُ شَفًّـهُ وَجــدٌ وَعِشــقُ
أحِنُّ لَهَا وأسْكُنُ فِي حِمَاهَا وَهَل يُضنِي المُقِيمَ جَوىً وَشَوقُ؟
بِـلادِي والتَّنَهُّـدُ فِـي رُبَـاها وَفِـي أغـوَارِهَا سِـرٌّ وَعُـمـقُ
تُطَمْئِنُ صَيفَهَا شَمسٌ وَدُودٌ يَهِيـجُ شِتَاءَهـا رَعْـدٌ وَبــَرقُ
وَتَزخَـرُ فِـي جَدَاوِلِهَـا مِيّـاهٌ غَذَاهَا مِن كَرِيـمِ الـمُـزْنِ وَدْقُ
شُمـُوخُ جَلِيلِهَــا عِــزٌّ وَكِبْـرٌ وَبَسـطُ مُـرُوجِهَـا لِيـنٌ وَرِفـْقُ
إذَا لَـفَّ النَّسِيـمُ لَـهَـا حُقُـولاً سَـرى فِـي جَوِّهَـا رِيحٌ وَعَبْقُ
وَتَرتَعُ فِي مَراعِيهَـا خِـرافٌ تَرُوحُ وَتَغتَـدِي والأُفـقُ طَلـقُ
تُمازِحُ راعِياً أضحَى كَسُولاً أصــابَ جَبِـينـَهُ كَـيٌّ وَحَـرْقُ
وَكَرمِـلُـهـا مـَلِيــكٌ ذُو وقــارٍ يُـظَـلِّـلُ عَرشَـهُ غُـيْـمٌ وَوُرقُ
حَوى في حِضنِهِ أحلَى عَروسٍ حـَوَت مِـن حُبِّـهِ مَـا تَسْتَـحِـقُّ
وَفِي أرضِ الـمُثَلـَّثِ أُغنِيـاتٌ يُـرَدِّدُ وَقــعَــهَــا عُــودٌ وَرَقُّ
ثِمَـارُ كُـرُومِـهِ شَهـدٌ حَـلالٌ وَزَيـتُ (زَتونِهِ) هِـبَـةٌ وَرِزقُ
وَفِي القُدسِ الشَّرِيفِ لَنا جُذُورٌ عَنِيـدَ الـصَّخرِ إذْ يَـأبَى تـَشُـقُّ
وَفَـرعٌ جَـاوَزَ النَّجْـمَ ارتِقـاءً وَأبــوابُ السَّمَــاءِ لَـــهُ تُـشَـقُّ
بِلادِي والقَداسَـةُ فِـي سَمَـاهَـا طَهَـارَةُ أرضِهَـا نُورٌ وَصِدْقُ
وَأرضِـي إنْ أبَــت إلّا فِــداءً أمُـوتُ لأجـلِهَـا والـمَوتُ حَـقُّ
معاني المفردات :
الخفاق: القلب . رهيف : رقيق. شفّهُ : انحلهُ. الوجد : الحب.
الحمى : الديار . الضنى : المرض. الجوى : الحُرقه. التنهد : الارتفاع.
المُزن : الغيوم الماطره. الودق : المطر. العبق: رائحة الازهار.
الوُرق : الحمام. الرَّق : الدّف.
المعلمة سهير ابو فول قامت من خلال تحليلها للقصيده بالقاء الضوء على بعض الجوانب الادبية والفنية التي قد تساعد القارئ في فهمها وتذوقها. اشكرها واترك لكم فيض خاطرها :
تحليل قصيدة "أموت لأجلها" للأستاذ الشاعر عبد الحي إغبارية
المضمون:
في الأبيات الثلاثة الأولى يُبدي الشاعر مشاعره تجاه بلادِهِ، فيُصَرّح بحبه وعشقه لها، ولحنينه وأشواقه لربوعها، على الرغم من كونه مقيمًا فيها غير بعيد عنها. ثم ينتقل الشاعر في الأبيات 4-6 لوصف طبيعتها الجميلة، وأجوائها المعتدلة، وخصوبتها ووفرة مياهها. فشمس الصيف شمس ودود لا تحرق، والشتاء يأتي بالسحب الكريمة التي تحيي البلاد وتملأ الجداول.
أما في البيتين التاسع والعاشر فينقل لنا الشاعر صورة جميلة للراعي مع خرافِه في المرعى حيث تلاعبه خرافه أحيانًا ثم ما يلبث أن يهدأ ويجلس مستكينًا "كسولا" أحيانًا أخرى، مما يُضفي جوًا من الواقعية الحالمة، ويعطي الصورة بُعدًا إنسانيًا. في هذه القصيدة نرى تنقل الشاعر بين تضاريس بلاده متغنيُّا بها، فيبدأ جولته الجغرافية هذه بالبيت الرابع في الأغوار، فللأغوار رهبةٌ وعمقٌ كما أنها تحوي أسرارًا لم يُدرَك كنهها بعد. والجليل بشموخ جباله يمثل العزة والكبرياء والأنفة. أما مروجها فتوحي باللين والدِّعة والرفق. وما يلبث الشاعر أن ينتقل إلى جبال الكرمل التي تعتلي عرش الشمال وتحضن في ربوعها عروس البحر حيفا، فتغدق عليها من عطائها وحبها ما تستحق من جمال الطبيعة، وسحر الأجواء، وغزارة الخضرة، ونقاء الأنسام. أما المثلث فيحفل بالأصالة والتراث، فيردد الأغنيات على أنغام العود والدف (الرّق)، وتزين أرضه الكروم المثمرة وأشجار الزيتون العريقة التي تهب الناس الزيت عطاء ورزقًا من الله.
أما في الأبيات 12-17 فيؤكد الشاعر عمق انتمائه وصدق ولائه بإظهار حُب جذوره عقدية، حيث الإيمان بقداسة بيت المقدس أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. وهذا الحب يضرب جذوره عميقًا متحديًا الصعوبات فيشق الصخور الصماء المستعصية. كما ويرمز الشاعر في البيت السادس عشر إلى حادثة المعراج الشريفة حيث شُقّت وفُتحت أبواب السماء لنبي الرحمة في ليلة الإسراء. أما في البيت الأخير فيُبدي الشاعر استعداده للتضحية بالروح، والموت في سبيل الدفاع عن أرضه الطاهرة.
اللغة وتوظيف الألفاظ:
إن المتتبع لقصيدة "أموت لأجلها" يلحظ أن لغة القصيدة لغة متماسكة فصيحة تسير بحسب قواعد اللغة العربية المعيارية. قافيتها موحدة، كما ونلحظ أسلوب التصريع في البيت الأول (ترقُّ – يدقُّ) مما يشير إلى براعة الاستهلال وقوة البداية. تمتاز القصيدة بالوحدة الموضوعية فهي تدور حول إظهار الحب والإنتماء للوطن. لقد وظّف الشاعر اللغة لخدمة الفكرة التي أراد إيصالها للقارئ. فقد استخدم الطباق والمقابلة للعمل على إبراز المعنى وتقويته وإثارة انتباه القارئ وتحفيزه على استمرار القراءة. فعلى سبيل المثال: نرى في البيت الرابع الطباق في كلمتي :رُباها – أغوارها، وفي البيت الخامس نرى الطباق والمقابلة حيث يقول الشاعر:
تُطمئن صيفها شمسٌ ودودٌ يهيجُ شتاءَها رعدٌ وبرقُ فقد أظهرت هذه العبارات الجمال في التباين الجغرافي الذي عبَّر عنه الشاعر بالطباق والمقابلة اللفظية.
أما في البيت السابع فنرى المقابلة التي تخدم إبراز جمال الطبيعة بواسطة إظهار التباين بين الجبل والمرج:
شموخ جبالها عزٌّ وكبرٌ وبسطُ مروجها لينٌ ورفقُ
كذلك الطباق في البيت التاسع: تروح – وتغتدي.
أما عن استخدام المرادفات والذي هو نوع من التكرار، فقد هدف إلى توكيد المعنى وترسيخ الفكرة بالإضافة إلى إضفاء الإيقاع الموسيقي والرشاقة والحيوية على العبارة. فنرى المرادفات في عبارات مثل: لين – رفق، كي – حرق.
أما عن الكناية فقد استخدمها الشاعر في البيت الأول في قوله خفّاقًا كناية عن القلب، وفي قوله أحلى عروسٍ كناية عن مدينة حيفا في البيت الثاني عشر.
وللتشخيص نصيب في هذه القصيدة، فنراه على سبيل المثال في البيتين الحادي عشر والثاني عشر، حين شبه الشاعر جبل الكرمل بالملك الذي يحضن عروسه (مدينة حيفا) ويُغدق عليها من عطاياه.
ومن اللافت في هذه القصيدة الأسلوب الذي اعتمده الشاعر لاختتامها. فنرى في الأبيات الأربعة الأخير (15-18) التي تتحدث عن الأرض المقدسة، أنها مبنية من الجمل الإسمية مما يثير تيارًا شعوريًا يلامس أعماق النفس الإنسانية، فتتداعى العواطف التي تربط الإنسان بالمقدس، وعلى وقع التصاعد الشعوري في الأبيات حيث يتدفق شعور الإنتماء القومي والديني ليصل ذروته، يتوج الشاعر فيض العواطف باستعداده للتضحية فداءً لثرى بلاده الطاهرة، وهذه قفلة محكمة بارعة من الشاعر، تُنهي القصيدة وهي تحمل دفقة شعورية سامية فياضة.
أما بالنسبة للعنوان "أموت لأجلها"، فإنه يحمل لأول وهلة دلالة غزلية، ومن الجدير بالذكر أن المرأة في الأدب وفي الشعر خاصة ترمز في أحيانٍ كثيرة إلى الأرض. فبارك الله في شاعرنا وشكرًا له على فيض عطائه.
موقع العرب يفسح المجال امام المبدعين والموهوبين لطرح خواطرهم وقصائدهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع منبرا حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجي إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع علي العنوان: alarab@alarab.net