رحلت عاشقة الأرض والسهل والزيتون، وبقيت أمّي حمائم بيضاء، تعشّش في شغاف قلبي وتأبى الرحيل.
هل رحلت من نذرت حياتها فلاحة نشيطة، راهبة للأرض، ورب بيت في غياب الأب، والهمّ كبير، والنهار كان بعد طويلا طويلا.
الأمّ لا ترحل ولا تسافر، تبقى في سواد العيون ، وشغاف القلب ودهاليز الذاكرة.
شامخة كالزيتون، صلبة كالصخر، نشيطة كعقارب السّاعة، صافية كالزيت في الخابية، طيّبة كقلب طفل، رقيقة كحبّات طلّ على نعناعة، هادئة كحفيف الأشجار وحكيمة كشيخ مجرب، صريحة وواضحة كعين الديك.
طائر يطير بجناح واحد، ويحلّق نسرا عنيدا في القمم الشمّاء، ويحتضن ويرعى فراخا صغارا، في زمن عصيب قاس، رغم الظلمة والريح والغيوم، وشظف العيش في حقول الخيار، وينجح بأن ينحو بالسفينة إلى البر الآمن.
ديمة سمحاء سكوب في نهار قائظ، وبركة البيت ونعمته، ناثرة البسمات وأزهار التفاؤل في زمن الحزن والغصّات.
وجه بشوش وصوت هادئ وصادق، ينثال منه الألق، والشموخ والطيبة وحبّ الناس، وإلا كيف نفسّر أن يقوم باحث كبير، وأستاذ في الأدب العربيّ هو البروفيسور الصديق عامي إلعاد- بوسقيلة، بوضع اسمك "أم سمير من الجليل" ك مهدى إليها، على كتاب كبير من الأبحاث في الأدب الفلسطينيّ، صدر باللغة الإنجليزية ،عن كبرى دور النشر في بريطانيا، تحت عنوان : Modern Palestinian Literature and Culture وحين يسأل، أمام جمهرة من طلاب جامعة أكسفورد في بريطانيا، من هذه هي "أم سمير في الجليل" التي تهدي إليها كتابك، وأنت باحث وأستاذ جامعيّ يهوديّ، يجيبهم بأنّها فلسطينية طيّبة وأصيلة، و أمّ صديق لي من قرية عبلين في الجليل.
هكذا عشت بشوشة محبوبة، تدخلين قلوب الناس الذين يعرفونك دون استئذان.
يا من نذرت حياتك من أجل تعليمي، وسكبت في أذنيّ ترانيم العلم والدراسة، وحفّزت أحفادك على العلم وبلوغ القمم..ما أحوجنا إلى أمثالك أمّا مثالية وعصامية!
"الكلمة هي الله" في قاموسك، والحثّ على العلم وصعود الجبال دينك وديدنك.
بخورك حبّ النّاس،والتواضع وعشق الزرع، وشعارك : ملأى السنابل تنحني بتواضع والشامخات رؤوسهنّ فوارغ - يا من عشت كريمة ومكرمة، ورأيت الأحفاد ينوبون ويتراكضون فرحين حولك، وبلغت من العمر العريض شأوا، وإن لم تبلغي بعد عتيا، وحقّقت معظم ما رسمته وهندسته، تعطّرت الحياة وتباركت بأمثالك!
طوباك في حياتك الملأى أقمارا وشموسا!
وأعترف أمام نعشك الطاهر، وأمام الكاهن، في الهيكل المقدّس، أنّ كل إنجاز علميّ أو شهادة أكاديميّة حققتهما، هما لك أوّلا ، وبفضلك ثانيا، لأنّهما ثمرة جهدك ورسالتك وتشجيعك، وممهورتان بتوقيعك المقدّس.
تغمّدك الربّ بواسع رحمته.
(لقد ألقى الدكتور المحامي سمير حاج هذه الكلمة المؤثرة في كنيسة القديس جوارجيوس للروم الأرثوذكس في عبلين، أثناء مراسم تشييع جثمانها بتاريخ 18/8/2012)
موقع العرب يفسح المجال امام المبدعين والموهوبين لطرح خواطرهم وقصائدهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع منبرا حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع على العنوان: alarab@alarab.net