الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأربعاء 13 / نوفمبر 01:02

صراع البقاء في الثلاث مستويات/ بقلم: كميل شحادة

كل العرب
نُشر: 30/05/12 10:28,  حُتلن: 10:32

أبدأ من حيث أنهيت حديثي في المقالة السابقة بالسؤال : كيف نوفق بين البحث عن ذاتنا وعن معنى ذاتنا في العمق ،وبين صراعات الحياة وواجباتها المختلفة ..؟ ولكي يتخذ الكلام صفة جدية عقلية واقعية ،لا بد ان نأخذ بعين الاعتبار ثلاثة مستويات لصراع البقاء تفرض نفسها على جميع ابناء المجتمع .. المستوى الأول : هو السعي للبقاء الطبيعي المادي ،الذي يعني ببساطة الحصول على جميع احتياجاتنا الطبيعية من طعام وشراب ومأوى وسائر مقومات العيش ،وطبعًا عمل يوفر لنا هذه الاحتياجات الضرورية ويؤمن استمرارها لليوم القادم .. (باستثناء الذين ولدوا ويولدوا وفي فمهم ملعقة ذهب) .. المستوى الثاني لصراع البقاء : هو معنوي سيكلوجي ،أخلاقي، قيمي ، يتمثل في السعي للقيام بالواجبات الاجتماعية تجاه مناسبات ،معظمها تقليدية ودورية طبيعية ،مرتبطة بالولادة والزواج والمرض والوفاة ،وبعضها استثنائي ينحو منحى رمزي أكثر – كما هو مُتبع - كاحتفال بنجاح ما ، بحصول على شهادة ،بتأليف كتاب ، بإنجاز علمي،أو فني معين ، بتقاعد عن عمل ، بتخرج ..إلخ المستوى الثالث لصراع البقاء ،من وجهة نظري يتمثل في السعي عميقا للتحرر الروحي ،سواء عن طريق دين معين ،أو عن طريق العرفان الخالص ،وهذا يحتاج لتوضيح ، لتفصيل في الحديث ،لشرح وتفسير . هذا النوع من الصراع الجدلي لا يشمل الجميع ، بل يتدرج طالبوه كل ومستواه ومقامه ،من حيث العمق والمفهوم .. المهم ان شيئا لا يتحقق من الثلاث مستويات دون صراع ،وصفة الصراع نابعة من كوننا أولا كائنات مركبة من ثنائيات متضادة ،ثانيا كون الأغراض والأهداف في الثلاثة مستويات ليست جاهزة كما في عالم الطيور والحشرات والحيوان العاشب عموما ،بل يحتاج تحصيلها لجملة من افعال ارادية ، أي لجهد وتوتر ولطاقة عقلية ،عصبية ،عضلية ، ناهيك عن الظروف الخارجية ،عن المعوقات والحواجز ،سواء الطبيعي منها والمصطنع والمفترى والمختلق.

الصراع التحرري
أما ما يهمني منها هنا هو الصراع الثالث التحرري ،الذي لا يمكن فصله – واقعيا – عن سابقيه ،وذلك لارتباط المرء بغيره عضويا ماديا اقتصاديا واجتماعيا ،سواء كان رجل مال ،سياسة ، دين ،ثقافة ،أو عرفان بالمعنى الواسع والخاص معًا ،كما أهدف هنا .. ولأن قصدي هنا الصراع الأخير بالذات ،سأخرج من التعريفات والتوصيفات التقليدية لألقي نظرة مبدئية على كينونة الإنسان من حيث الماهية والتركيب ،لكي يكون لتوجهي معنى محدد يخدم هذا الصراع ،معتمدا التجربة والرؤية المباشرة ،دون لجوء الى نصوص من اي مصدر كان، وان كان في استخدام كلمات ومصطلحات مستعملة هنا ما يخدم الموضوع ، ذلك لا يعني الاستمداد من النصوص ، كما لايعني المحاكاة والتقليد ،وهذا هو عمليًا شرط العرفان التجاوزي الذي أراه حقيقيا وفعالا لطالب الحقيقة ،كي يحصل على المراد بصورة حية يقينية ،فلا حفظ المعلومات الغزيرة ينفع هنا، ولا الاعتقاد والإيمان ..لا التبحر في التفسير ولا الشرح والتأويل للنصوص الدينية .. الأمر علمي تجريبي اختباري حي مباشر ،في مستوى البعد الأخير للوعي ،النازع للتحرر من كل تقييد ذاتي وغيري على حد سواء ،والذي يتجاوز مفاهيم الفكر الحسي "النورمتيفي" .. عليه ان جوهر الإنسان هو جوهر الكون ، بسيط لطيف غير قابل للتحديد والتجزئة . وغير ممكن التعريف بأكثر مما يحمله الرمز التعبيري من معان ٍ .. هناك ظلمتين صدرتا وغطيتا هذا الجوهر إثر اختلاطه بمادة الجسد – لن اتطرق هنا لأسباب هذا الاختلاط والتمازج – الظلمة الأولى تمت تلقائيا وطبيعيا بمجرد الاختلاط والتمازج ،اما الظلمة الثانية ،فهي امتداد مكتسب للأولى ،تفعل فيه الإرادة والعقل والمشاعر والحواس ..وليس كل المنجزات التاريخية ،معنوية ومادية ، سوى امتدادات وتداعيات وتخليقات وتخريجات ، قامت وتقوم ضمن الغطاء الحاجب والمجزئ ،لجوهر الوجود، غير القابل فعليًا للحجب والتجزيء ، اللهم الا وهميا وسيكلوجيًا فقط ،أي كما يجري للحالم في منامه من اعتقادات وتصرفات وتصورات . ومن هنا فان المعرفة بحقيقة الوجود هي يقظة وانسلاخ من نشاط الحلم الحسي الفكري النفسي بكل مستوياته وظهوراته .. وهنا ينبغي الفهم بان الاستيقاظ والانسلاخ لا يعني ترك العالم ،الاعتزال فيزيقيا بالتحديد .. بل يحتاج – عرفانيا – لممارسة تقنية التأمل والتحقيق والتفتيش جذريا.. بمعنى " חקירה " داخل " متيداتسيا " في طبيعة الوعي ،الأفكار الانفعالات ،العواطف ،الغرائز ،الخلفيات ..

جوهر الذات
الان لنفترض المقدم أعلاه من حديث حول جوهر الذات كوعي غير مقيد في ذاته ، بسيط لطيف ،كمجرد فرضية .. لنعللها : في الواقع لأنفسنا نملك دليل الاختبار المباسشر الذي نحصل من خلاله على الكشف الباطني والاستنارة وما يسمى الاشراق ،أما للطالب غير المستنير وللشاك ،نقدم الدليل العقلي والحسي بالسؤالين التاليين : أولا ً من اين نابعة الرغبة في الاستمرار في الحياة الى ما لانهاية فينا ،رغم ادراكنا البديهي والسابق لنهاية الحياة الجسدية ..؟! ثانيا كيف نفسر السعي التاريخي الفردي الشخصي والجماعي، لتجسيد وتحقيق أكبر قدر من الكمال الحضاري،عبر الفنون المختلفة والعمران والصناعة ،والتطوير المستمر في كل الاتجاهات ..؟! انها تعبير تلقائي عن المطلق اللامحدود فينا ،إذ هو غير مكتسب لا بتجربة ولا بتطور فيزيائي وبيلوجي ، وهو ليس مجرد نزوات ورغبات نفسية ، أو بسيخونفسية .. انه وجودنا وماهيتنا وهويتنا الأزلية الحقيقية وجوهرنا دون زيادة ولا نقصان ،ننزع به من خلال "ظلمة الحواس والفكر" المتكونة جراء تمازجه "الخلاق" والعفوي، بالكثيف الحسي،كتمازج الأبيض والأسود، الذي ينتج من هما الرمادي غير الأصيل .

الواقع الطبيعي والاجتماعي
تعاملنا مع الواقع الطبيعي والاجتماعي من خلال السعي في التحقيق والتحرير الذاتي ، الذي خلاصته تفكيك وفصل بين "اللونين" اي باعادة النزوع بالمطلق لتجسيده كالمعتاد في "الخارج الحسي" الى جوهر ذاته في ذاته "داخلا" : بما ان علاقتنا " كطلاب" تحرر افتراضا ،مع جسدنا كوحدة بناء شخصية في مجتمع وفي نظام اجتماعي ،يقوم على إلتزامات وواجبالت كثيرة ،لا نستطيع تجاهلها والجلوس جانبا طوال الوقت لنتفرغ في عملية التأمل والبحث والدرس ، التي يقتضيها التحرير ،فان امتلاك بعض التقنيات الفكرية والنفسية ،ضرورية لتمكيننا من التوجه الصحيح ونحن في غمرة الحياة .. بما ان وجودنا هو وجودنا في كل مكان وزمان ،فان التنبه بهذا المقام الداخلي الحيوي الثابت، وراء الجامد المتحرك الفارض ذاته علينا،يحررنا من التقيد الباطني بالاشياء الخارجية ، خصوصا حين لا يكون لنا فيها رغبة شخصية .. هكذا - مع التوسط السلوكي – والاعتدال الطبيعي في كل شيء ،يمكننا التقدم في طريق التحرر العرفاني .

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net

مقالات متعلقة

.