يواجه الإنسان منا خلال فترات حياته المختلفة الكثير والعديد من الصعاب والعقبات ، والتي قد تحدد أحيانا مستقبله أو ما تبقى له من أيام في هذه الحياة ، وأكثر ما يخيف الواحد منا هو ذاك المجهول الذي يتربص له حاملا تطورات وأحداث غير متوقعة . كلما أبدى الإنسان صبرا وتجلدا أمام هذه الصعوبات والتحديات كلما كان ذلك مؤشرا على قوة شخصيته ، ولكن العديد منا يجد نفسه أحيانا منهارا أمام هذه التحديات الصعبة، وخاصة إذا تتالت عليه وتراكمت ، فلا يكاد يتخلص من ضربة حياتية وإذ به يتلقى صفعة أخرى ، تكون أشد إيلاما من الأولى.
وأتساءل وأنا أكتب هذه الكلمات : هل وليد صدفة أن تكون الضربة القاسية الأولى يوم سبت ، وأن تكون نهاية هذا الرجل النادر الوجود يوم سبت ؟
سؤالي المبهم هذا ، والذي قد يثير حب استطلاع القراء ، مرتبط بمجريات حياتية معينة تخص شخصا أعتبره وبحق بمثابة أخ وزميل ومرشد ومربى – إنه الأستاذ كمال قيس –رحمه الله- فيوم السبت من سنة 1999 هو اليوم الذي تلقى فيه المرحوم الضربة الأولى ، حين حدثت تلك الأحداث المؤسفة في مدرسة أبو سنان الثانوية بشكل خاص وفي قريتنا الحبيبة بشكل عام ، والتي على أثرها قرر الأستاذ كمال الاستقالة من منصبه كمدير للمدرسة الثانوية التي أحبها وأسسها ، ويوم السبت من عام 2011 هو اليوم الذي ودعنا فيه مربينا وأستاذنا المرحوم كمال قيس ...
ما بين هذين السبتين أبت الدنيا أن تبتسم لهذا الإنسان الذي امتاز بطيبة القلب والطهارة والتواضع والاستقامة والصراحة، فلقد فقد خلال هذه الفترة ابنه البكر ، المرحوم فارس ، وفقد أيضا زوج ابنته ، المرحوم ذكي ... إنها ضربات ينهار أمامها أعظم الرجال، ولكن من خلال تواصلي معه وزياراتي له في تلك الفترة لم أسمع منه كلمة تذمر أو استياء على قسوة الزمن وجبروته ، وإنما كان يردد دائما كلمة واحدة :" الحمد لله يا أخي !" ومن ثم يركز جل اهتمامه وكلماته بالسؤال عني ، عن صحتي ، عن أولادي وتعليمهم ... كنت أبدي الصبر أمامه وأتمالك نفسي ، ولكن كان قلبي يدمع ويتساءل : أي نوع من الرجال أنت يا أستاذي ؟ ما هذه النعمة التي انعم الله عليك بها حتى تستطيع أن تقف أمام الدهر وضرباته بهذه القوة وبهذا الصبر ؟
لم تستطع محن الزمان وقسوته أن تعيق مشوار هذا الرجل الشجاع ، فكرّس اهتمامه لمن بقوا له في هذه الدنيا- زوجته أم فارس وبناته ونجله هايل . كان حلمه أن يرى هايل يرتدي بدله العرس ليفرح به ، لعل ذالك يخفف ولو القليل من ضربات هذا الزمان ، ولكن القدر كان أقوى منه أيضا هذه المرة ،فوجه له ضربة أخرى تمثلت بمرض خبيث ، منعه من حضور حفل زفاف ابنه ، ليرى هايل في بدلة العرس فقط في المستشفى في مدينة حيفا ...
عندما خف المرض عنه قليلا فرح جميع من أحبه ، وقمت بزيارته في البيت ، لأجده وهو على فراش المرض برفقة أعز صديق عنده وخير جليس لديه – ألا وهو الكتاب . كعادته استقبلني بتلك الابتسامة المعهودة التي من الصعب نسيانها وبادرني بالسؤال عن صحتي وعائلتي وأولادي...أثناء تلك الزيارات كان يردد كلمات ستبقى محفورة في
قلبي :" أنا لا أريد شيئا من هذه الحياة يا صديقي ، فقد أعطتني الكثير الكثير وأحمد الله على ما منحتني!"
هكذا كنت يا أيوب هذا الزمان : قنوعا ،متواضعا، صبورا ، متسامحا ، مثقفا ، مرشدا ، تهتم بالغير أكثر من اهتمامك بنفسك ...
لقد تعلمت منك الكثير يا أستاذي : علمتني التواضع ، علمتني حب الناس وحب المهنة ، علمتني الصبر والمثابرة ، علمتني الهدوء والاتزان ، علمتني فن الإصغاء للناس والاهتمام بهمومهم ، علمتني الابتعاد عن الأنانية وحب الذات...
نحن في المدرسة الثانوية ما زلنا نطلق على الفترة التي كنت فيها مديرا فترة " العهد الذهبي" للمدرسة ، ليس بسبب الانجازات التعليمية فحسب ، بل لأنك علمتنا أن نحترم الواحد الآخر ، أن نتعاون على الخير والتقوى ،
أن نكون جسما واحدا وقلبا واحدا ، علمتنا يا صديقي ويا أخي أسس التعامل الحضاري ...
وداعا يا أعز أخ ، وداعا يا أستاذي الأول ، وداعا يا أفضل مربى عرفته وسأعرفه ، وداعا يا أيوب هذا الزمان ...
****************
نديم إبريق- أبو سنان
نائب مدير مدرسة أبو سنان الثانوية
موقع العرب يفسح المجال امام المبدعين والموهوبين لطرح خواطرهم وقصائدهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع منبرا حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب.
لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع على العنوان:
alarab@alarab.co.il