رافي مصالحة في مقاله:
قيل في المحاماة انها مهنة الفرسان النبيلة السامية مهنة النبلاء وقيل في المحامي انه رسول العدالة وطالب الحق أينما كان
القلب ليدمي ويجزع لما آلت اليه الحال فشرف المهنة انحرف ودنا وتدلى فصار قاب قوسين أو أدنى من الهاوية غير ذات القرار
إذا كان المحامي هو حامل راية العدل والنضال المستميت للحريات فأين نضالكم الحقيقي ايها الراكضون وراء سراب خيالاتكم السقيمة؟
كيف نربط موضوع ثورات الشعوب لنيل حرياتها واسقاط طغاتها بالحديث عن انتخابات لنقابة تخص مجموعة محدودة لاصحاب مهنة كباقي المهن؟
مخطئ تماما من يعتقد أن المحاماة هي مجرد مهنة ترمي للدفاع عن حرية المواطن وكرامته أو غوث الضعيف ونصرته, المحاماة مهنة تحمل رسالة راقية و عالية ، ولا يمكن لأحد أن يعرف قدرها إلا من أراد إقامة العدل والدفاع عن الحق ومحاربة الظلم, بل لقد شهد التاريخ أنها ما انفكت منبراً للوطنية والقومية منذ فجر الحضارة البشريه. كانت أول الأصوات التي نادت باستقلال الشعوب المكبوتة والمقيده والمُداسة هي أصوات المحامين المدوية التي تردد صداها في أسماع العامة وفي عقولهم الواعية والباطنه, كصوت المحامي سعد زغلول والمحامي مصطفى النحاس والمحامي مرقس حنا الذين سطروا تاريخا من الشرف في معارك مصر القرن البائد لنيل حريتها وفك قيود المستعمرين اللذين عاثوا فيها فسادا. قيل في المحاماة انها مهنة الفرسان النبيلة السامية, مهنة النبلاء, وقيل في المحامي انه رسول العدالة وطالب الحق أينما كان. فالمحامي هو الوجه الثاني للعدالة، ذلك أن من جوهر مهامه إظهار الحقيقة وإيضاحها وتأييدها بالحجج والبراهين, فإذا اختل هذا الوجه خبا نور الحقيقة حتى قيل بحق: (إن العدالة نتيجة حوار بين قاضٍ مستقل ونزيه وبين محام حر وأمين).
الصدح بالحق والكفاح
لقد شهد التاريخ أن رواد التغيير والصدح بالحق والكفاح لأجل المبدأ الأسمى كانوا من بين المحامين, فمنهم من تولى زعامة الأمم وقيادة الشعوب ورئاسة الدول والحكومات والبرلمانات، ومن اختيروا لأرفع مناصب القضاء. فقبل المحامي باراك اوباما وقبله "الزير" كلنتون, وجيرالد فورد وتوماس جيفرسون, كان أبراهام لينكون (رئيس أمريكا في عهد تحرير العبيد عام 1861) محامياً ناجحاً بولاية إيلينوي, وغاندي زعيم الهند كان محاميًا، كما أن مصطفى كامل وسعد زغلول زعيمي مصر الخالدين كانا محاميين, وترأس وزاراتها المحامون مصطفى النحاس وحسن صبري وأحمد ماهر وإبراهيم عبد الهادي ونجيب الهلالي، وتولى رئاسة مجلس الشيوخ ومجلس النواب المحامون محمود بسيوني ومحمد محمود خليل ومحمد حسين هيكل وعبد السلام فهمي جمعة وحامد جودة. هذا وتولى رئاسة جمهورية فرنسا كثيرون من المحامين ونقباء المحامين أمثال جول جريفى ولوبيه وفالليير وبوانكاريه وميلليران، كما تولى رئاسة الوزارة في فرنسا في أحرج أوقات الحرب محامون منهم ألندر ريبو ورينيه فيفانى وارستيد بريان وغيرهم. وهاكم مثال آخر من عهدنا القريب هو صاحب جائزة نوبل الذي ترأس الهيئة الدولية للطاقة النووية وصاحب البصمة في تغيير حاضر الأمة المصرية محمد مصطفى البرادعي (ووالده مصطفى البرادعي محام ونقيب سابق للمحامين) هو خريج كلية الحقوق في جامعة القاهرة سنة 1962.
المحاماة – تاريخ المحنة
لقد كان للمهنة سحر كامن بثّ في النفوس هياما ملك على جوارح البشر, وقد ذاق من امتهنها في السنين الغابرة حلوها الذي علا من نشوة النجاح ومرها الذي امتزج بألم الخسارة, ولعل مرها هذا كان طيب الأريج حلو المذاق سائغ للناهلين, فليس يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها. كنت تنصت إلى مذكرات المحامين ومرافعاتهم فترتسم أمام ناظريك قطع من الأدب الرفيع الذي يداعب المسامع فترتشفه بشغف عجيب. وجمهرة المحامين كانت منتدى للأدب والقانون والسياسة والوطنية البريئة من التحذلق وتخيّر العبارات الطنّانة الخاوية, والحوار امتزج بالدعابة الراقية والمرح الذكي, كان الحديث فينا يوقر المخضرم, وكان المتمرس يسعد بالمبتدئ, يعلمه ويلقنه أصول المهنة وآدابها بروية وحسن المعشر.
أين نحن الآن من هذا كله؟
إن القلب ليدمي ويجزع لما آلت اليه الحال فشرف المهنة انحرف ودنا وتدلى فصار قاب قوسين أو أدنى من الهاوية غير ذات القرار. لم يعد يرتجف جفن إزاء محام اعتاد التزوير في الاوراق الرّسميّة, أو محام يزايد ويتحايل ويخادع في سبيل اقتناص ملف دعوى تعويض أو غيره من زميل آخر سبقه إليه, أو محام يغتصب أرضا أو عقارا ويهبه بأساليب السمسرة الخبيثة للمستوطنين, أو محام يلعب دور البطولة في جريمة نصب واحتيال لنهب مال العامة أو الخاصة, أو محام قبض أتعابه ليعرض أمام القاضي مظلمة موكله, فيرتبك ويتلعثم ويرفع راية الإستسلام عند أول طعن لخصمه لعدم الدراسة والتمحيص اللازم لمواد قضيته, أو محام انتدب لرفع الضيم عمن أضرت به براثن السلطة, فيقف عاجزا تائها أمام مندوب السلطة الجائرة لينتهي الأمر بجور ابلى وأعظم. إن كنا هنّا على الناس, فذلك لأننا هنّا على أنفسنا. لقد انصرف الأغلب إلي الخلاف الدنيء بين الزملاء, خلاف وصل في جلّ الأحوال إلي المشادة المشوبة بالقذف والتجريح والتشكيك, بعيدا عن الحوار العاقل الملتزم بقواعد النقاش الحضاري, فاختلفت الآراء وجراءها فسدت في الودّ كل القضايا.
ذكر الثورات: حذلقة ورعونه
يتشدق الكثيرون في هذه الايام أن عصر الثورات يواكب انتخابات نقابة المحامين, فيخلطون الحابل بالنابل على جهالة. وددت لو عرفت اولا كم من جماهيرنا العربية في البلاد شعر خلال أربع سنوات خلت او يشعر اليوم, أو اهتم حتى بان هناك نقابة للمحامين, وان هناك زوبعه وهمية تدور رحاها حول تلك الانتخابات بين المحامين العرب اللذين علت صيحاتهم "للتغيير" (دون ان يفصحوا ولو مرة واحده تغيير ماذا الى ماذا ؟!!, أين العيب والفساد الذي يقتضي محاكمة واعدام القائمين على نقابة المحامين اليوم ؟؟) فما سمعها سواهم !. كيف نربط موضوع ثورات الشعوب لنيل حرياتها واسقاط طغاتها بالحديث عن انتخابات لنقابة تخص مجموعة محدودة لاصحاب مهنة كباقي المهن (كنقابة المحاسبين. والاطباء, أو حتى نقابة الحلاقين وغيرها...) لا تكاد تعني احدا ولا يشعر بوجودها البشر ؟!!. ثم ان الثورات كانت وليدة واقع لانظمة قتلت الشعوب, وسرقت أملاكها, واستبدت, وارعبت الناس, وتاجرت بقضاياها, واسكتت همس المحتجين, واستولت على العروش بقوة الارهاب والكبت والاهانة وتزييف اوراق الاقتراع. اذا كانت ريح الثورات ستهب على بلادنا في هذه الايام بالذات بحسب تأويل جهابذة المحامين ونظرياتهم الفذة, فمن هو الطاغوت القاتل, السارق, المستبد والمرعب, وبأي قضايا مصيرية تاجر, وصوت احتجاج من قد اسكت, وعلى اي عرش استولى بالقوة وبالإرهاب, كي نثور ضده ونسقطه ؟. هل الحديث هو عن زميل لكم ترشح بمنتهى الديمقراطية امام خصوم اخرين قبل 4 سنوات واختارته ارادة الاغلبية منكم انتم, دون ان يرهب احدا, ودون ان يزيف نتائج الانتخابات, وحققت النقابة في عهده قفزة نوعية في خدمة محاميها العرب, ونال الكثيرون ممن انحرفوا عن اخلاقيات المهنة عقابهم, فاذا كان هذا هو الواقع, فضد من سنعلنها ثورة وما حاجتنا الى الثورات, الا يكفيك ان تقصد الصندوق وتدلي برأيك بهدوء كي تنصر مرشحك دون ارتداء بزة الثورات الكبيرة على مقاسك بشكل مذهل ؟!!.
الطاغوت الحقيقي
إن الطاغوت الحقيقي الذي يجب أن نثور ضده أولا هو الوهم الذي ترسخ في عقولنا بأن اقرب الناس الينا هو الاجدر بان نصمه ونلطخه ونمثل برفاته بعد نحرها, متناسين (عمداً) عدونا الحقيقي, كي نشتغل في طعن اخوتنا والتنكيل بهم تاركين من اغتصب ارضنا ويغتصبها, ومن قتل شعبنا ويقتله, متغاضين عمن يهيننا عند كل حاجز شرطة او جيش ليذكرنا كل مرة اننا ضيوف غير مرغوب بهم, متوددين الى من يحرص على تطبيق القانون الا علينا, ومن يستثنينا من كل حق في التعليم اللائق والسكن والبناء والتنقل الحر بين المطارات والموانئ, وغير ذلك الكثير الكثير. يا من تحركون رياح الثورات: بالله عليكم لو تجلبونها كي نرفع ولو قليلا من معاناة المستضعفين. إذا كان المحامي هو حامل راية العدل والنضال المستميت للحريات فأين نضالكم الحقيقي ايها الراكضون وراء سراب خيالاتكم السقيمة؟ وفق ما علمنا، فإن الديمقراطية تعني منح الفرصة امام اي انسان ليتولى منصبا دون اي تحيز او استثناء. بحسب هذه النظرية, نحن لا نعيب مجرد ترشح اي شخص لاي وظيفة في نقابة المحامين. ولكن مجرد ان نقول باننا نستثني ترشيح من كان مرتين سابقتين في منصب ما, ووصفه بالاستبداد لمجرد ان الاغلبية اختارته مرتين, فهذا سحق سافر وخرق وقح لمبدأ الديمقراطية الذي ننادي به. ماذا لو ترشح لمرة ثالثه, ورابعه او عاشره وفي كل مرة اختارته اصوات الاغلبية ؟ اين العيب في ذلك واين المس بقداسة وجلالة الديمقراطية التي نزعمها ؟ّ!!.
قيمة حياة الفرد
إن قيمة حياة الفرد تكمن في اتساع الرقعة التي يكرسها من حياته لإيفاء الرسالة السامية التي يخدم بها شعبه ومجتمعه, بعيدا عن اعتبارات الربح والمردود المادي, قريبا من تحقيق الذات وترك بصمة مضيئة في تاريخ بيئته ومحيطه. ولكل اللذين ينادون اليوم, اياما معدودات قبل انتخابات نقابتهم, بالقيم والحقوق والتغيير اقول: كم كانت مساحة تلك الرقعة في حياة كل منكم منذ ارتديتم عباءاتكم لاول مره ؟. ما هو رصيدكم من العمل المبدئي الموقوف حصرا وقصرا على خدمة المجتمع وفئاته المنكوبة عديمة الحيلة دون ابتغاء للمقابل المالي ؟.
بقي ان تعلم وانت تنظر الى هذه السطور ان كاتبها لا يقصد اقتاعك ان تدلي بصوتك لمرشح معلوم. لم أخط الكلم لأزكي فلانا وأهتك آخر, فلست من أفعلها. هناك في الشمال الطيب مرشحان صالحان موقران يمكنهما القيام بما يمليه واجب المنصب على احسن وجه. بيد ان الذي قد يقض مضجعي هو اسلوب الحوار الذي لن يمس بالمتحاورين فحسب, بل وسيصبح وصمة داكنة السواد في تدهور نقاء هذه المهنة نحو هاوية الوضاعه.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر.
لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وصورة شخصية بحجم كبير وجودة عالية وعنوان الموضوع على العنوان: alarab@alarab.co.il