د.صلاح عودة الله:
المرحوم كان زهيدا في حياته إلى أبعد الحدود ولم يتخذ من مهنة الطب وسيلة للثراءفقد كان أبا للفقراء والمحتاجين
دكتورنا الغالي... تمر علينا ذكرى رحيلك الثانية في وقت تهب فيه رياح التغيير الشبابية في وطننا العربي وها هم القادة العرب الرجعيون يسقطون واحد تلو الآخر
لن ينساك من عالجتهم ومن ساعدتهم ومن علمتهم, ولن تنساك عصافير القدس وزقاقها وأحجارها وكنائسها ومساجدها ولن تنساك المرأة الفلسطينية التي ضحيت من أجلها وكنت نصيرها
ما أصعب أن تكتب عن إنسان يعز عليك, والأصعب أن تكتب عن إنسان ترك إرثا من العطاء والتضحية لا يعوض ولا يقدر بثمن. في مثل هذه الأيام وبالتحديد في الثامن من آذار قبل عامين فقدت الحركة الطبية الفلسطينية عامة والمقدسية خاصة علما من أعلامها البارزين..انه الدكتور عبد الله أنطون خوري"أبو نديم", الذي أمضى أكثر من نصف قرن من عمره في خدمة أبناء شعبه بإخلاص قلما نشاهد مثله. لقد كان المرحوم زهيدا في حياته إلى أبعد الحدود ولم يتخذ من مهنة الطب وسيلة للثراء, فقد كان أبا للفقراء والمحتاجين..تعلم وعلم وتتلمذ على يديه العديد من الجراحين الذين برزوا وأبدعوا في مجالهم وأكملوا مشواره يدا بيد معه من أجل تطوير الخدمات الصحية الفلسطينية وخاصة المقدسية.
رحل عنا
لم تفارق الابتسامة وجهه طيلة حياته وحتى عند إلقاء النظرة الأخيرة عليه أبت هذه الابتسامة أن تفارق محياه, أحب الجميع وأحبوه, ساعد كل من طلب مساعدته وبدون استثناء, ولذلك بكاه الكثيرون ممن عرفوه..زاول مهنته حتى آخر أيام حياته وان كان فيها وضعه الصحي صعبا..وبهذا يكون قد أدى الأمانة بأكمل صورها ورحل عنا كالأشجار واقفا. رحل عنا والألم يغص قلوبنا والدموع تملأ مآقينا..لطالما عالج المرضى وبدون مقابل..رجل لم تعرف كلمة لا إلى فمه طريقا..هب وعلى الدوام لمساعدة المحتاجين. كان مديرا طبيا لمستشفى مار يوسف في الشيخ جراح في القدس على مدار قرابة العشرين عاما..أحب واحترم الجميع ممن عملوا في هذا المستشفى ولم يكن يفرق بين موظف وآخر وبغض النظر عن وظيفته فأحبه الجميع..كان متواضعا إلى أبعد الحدود بل انه أوجد مفهوما جديدا للتواضع. لقد عمل دائما من أجل توحيد المستشفيات العربية في القدس لتكمل بعضها بعضا وذلك من أجل تقديم أعلى مستويات الخدمات الصحية لأهل القدس وباقي أرجاء فلسطين المحتلة. إذا تحدثنا عن الانتماء فهو الانتماء بعينه..انتماء إلى المهنة وانتماء إلى القدس والوطن..كان يطمح دائما في إيجاد مرجعية طبية تضاهي المستشفيات"الإسرائيلية".
أبرز الشخصيات الفلسطينية
لقد كان الراحل أبرز الشخصيات الفلسطينية التي وقعت على الوثيقة المقدسية الشهيرة في تشرين ثاني من العام 2007 والتي طالبت أصحاب القرار الفلسطيني والعربي والإسلامي وأصحاب الفكر والرأي والقيادات المجتمعية مسئولية أمانة حماية القدس ومقدساتها أمام الأمة والتاريخ.
قبل فترة قصيرة تم تخليد الدكتور عبد الله خوري بافتتاح قسم الجراحة الجديد في مستشفى مار يوسف ليحمل اسم الفقيد, لقد جاء حفل التخليد متأخرا, فشخصية كشخصية أبي نديم كان من الواجب تقديرها وهي على قيد الحياة وهي في قمة العطاء, وحسب رأيي الشخصي فان تخليد ذكرى د. عبد الله خوري أعلى وأكبر بكثير مما تم فعله, ورغم ذلك نقول شكرا لإدارة المستشفى وان كانت صحوتها متأخرة.
رياح التغيير الشبابية
دكتورنا الغالي... تمر علينا ذكرى رحيلك الثانية في وقت تهب فيه رياح التغيير الشبابية في وطننا العربي وها هم القادة العرب الرجعيون يسقطون واحد تلو الآخر, فلم يعد الشباب قادرا على تحمل هؤلاء القادة المتسلطين القمعيين, وإنني على ثقة تامة بأنك كنت أول من سيبتهج قلبه لما يجري لو كتب لك أن تكون بيننا الآن, ولكنني أعلم بأنك تسمعني جيدا لأنك لا تزال بيننا, فجسدك وان غادرنا إلا أن روحك لا تزال ترفرف بيننا وفوقنا لتحمينا من المتسلطين الظالمين, كيف لا وقد كنت أول من قاوم الظلم وأصحابه, فنم قرير العين يا أبا نديم. وأما بالنسبة للمستوى الذي وصلت إليه مهنة الطب فقد تطرقت إليه عندما كتبت في ذكرى رحيلك الأولى, ولكن وللأسف يا معلمنا فان هذا المستوى يزداد تدهورا يوما بعد يوم, فالطب أصبح مهنة تجارية يتنافس عليها الأطباء ومن يدفع ثمن ذلك هم المواطنون المغلوب على أمرهم..رحم الله أيام زمان عندما كنت أنت ومن سبقوك ومن أتوا من بعدك يعالجون المرضى ويرفضوا تلقي الأجر بل يقومون بشراء الدواء لهم.
الأمل في نفوس
إن روحك يا أبا نديم قد بعثت الأمل في نفوس لم تعرف معنى الأمل.. ذلك اليوم وآه من ذلك اليوم, يوم نزفت فيه قلوب محبة لشخص حبيب أعلن السفر عن هذه الحياة, وما تلك الموتة-أعوذ بالله منها- ذلك الطاهر الأخ الذي طالما عرف معنى الأخوة والأمل, ولكن هذه سنة الحياة..هكذا قلت حتى أظهر نفسي قويا أمام الآخرين ولكن الآن أنا وحدي, فإنطلقي يا دموعي لتغرقي العالم بحزنك وتقطع يا أيها القلب فلم تعد صالحاً للإستخدام بعد رحيل من تحب ولتقيد البسمة بقيود لا تعرف الصدأ, ولا تعرف القدم بل تشتد يوماً بعد يوم, ولتحاط حياتي بسور من الأحزان لا يستطيع أحد أن يتسلقه حتى أنا.. بين كل هذه الشرارات وميض هناك ومض لي ذهبت لأستيقن ما هو وما يريد مني فوجدت ويا للهول من وجدت تلك الذكريات واللحظات التي قضيتها بقرب تلك الروح فوجدت جميعها لحظات سعيدة لم تعرف الحزن, لقد عرفت لماذا جاءت هذه الومضات؟, جاءت حتى تذكرني أو تصفعني حتى أستيقظ, فمن رحل لا يريد الحزن في نفوس من يحب, انه يريد رؤية البسمة دائماً على شفاه من زرع فيهم البسمة في حياته لذلك فلتنبض يا قلبي بسيمفونية الفرح حتى يفرح من رحل وحتى يبقى شمساً تنير لنا طريقاً لا يعرف الظلمة وليخلد ذكرك أمد الحياة ولتكن في قلوبنا حياً يرزق لا يعرف معنى الموت.
فقيدنا الغالي، كم سنفتقدك حيا في كل مكان، وكم ستبقى حيا بيننا أبدا تغني ونغني معك كما غنى شاعرنا الفلسطيني الراحل محمود درويش.."على هذه الأرض ما يستحق الحياة".
الرب أعطى والرب أخذ
في ذكرى رحيلك الثانية يا دكتورنا الغالي نردد ما جاء في الكتاب المقدس,"الرب أعطى والرب أخذ، فليكن إسم الرب مباركا"..ونقول لن ننساك ما حيينا, لن ينساك من عالجتهم ومن ساعدتهم ومن علمتهم, ولن تنساك عصافير القدس وزقاقها وأحجارها وكنائسها ومساجدها, ولن تنساك المرأة الفلسطينية التي ضحيت من أجلها وكنت نصيرها, ففي يوم رحيلك يحتفل العالم أجمع بيوم المرأة العالمي..لن أبكيك فأنت أكبر من أن يبكى عليك, نحتفل بيوم المرأة و"نحتفل" برحيلك فالعظماء لا يموتون أبدا..وسنردد ويردد معنا كل من عرفوك أبد الدهر..وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.