أحمد أبو عماد محاميد:
القوى اليمينية في فرنسا أيدت – الجيروند- بدعم من الملك لويس السادس عشر ضرورة نشر الثورة خارج فرنسا
في الأسبوع القادم إن شاء الله سنحاول معًا تحليل مراحل الثورة التي مرت بها فرنسا منذ بدايتها وحتى وصول نابليون إلى الحكم ونهاية الثورة
الوضع الاقتصادي نتيجة الإنتصارات بدأ يتحسن بشكل ملموس مما أدّى إلى إزدياد شعبية نابليون في صفوف الشعب الفرنسي الذي بدا متفائلاً جداً من موجة هذا التغيير
لقد وصلنا في الأسبوع الماضي إلى بداية مرحلة النجاح الأولى للثورة الفرنسية عام ١٧٨٩، والتي أعلنت من خلالها الجمعية التأسيسية عن إجراء انتخابات أولى للسلطة التشريعية التأسيسية وفقًا للدستور الجديد الذي وضعه أعضاء الجمعية، والذي تقرر فيه أيضًا عدم ترشّح ايّ عضو من أعضاء الجمعية للبرلمان الفرنسي الديمقراطي الأوّل. وكما ذكرنا سابقًا فقد أبقى الدستور الفرنسي الأول منصب الملك – ملكية دستورية- ومنحه بعض الصلاحيات الهامة جداً مثل صلاحية تعيين الوزراء وصلاحية تجميد قرارات البرلمان لمدة اربع سنوات. هذا الدستور الملكي الدستوري كان القصد منه إبقاء الملك وعدم إثارة غضب الرأي العالمي الذي كان يتسّم بالملكية في معظم دول أوروبا.
الإنتخابات الفرنسية
لقد أسفرت الإنتخابات الفرنسية للبرلمان عن نشوء الأحزاب والقوى السياسية المختلفة والتي يمكن تقسيمها إلى قسمين أساسيين: قوى الجيروند الذين جلسوا إلى يمين الملك ودعيوا باليمين وقوى اليعاقبة الذين جلسوا إلى يسار الملك ودعيوا باليسار. من الجدير بالذكر أيضًا أن الدستور الأول لفرنسا الثورة كان في معظم بنوده بتأثير من قوى اليمين – الجيروند- الذين رغبوا في إبقاء فرنسا ملكيّة على عكس قوى اليسار الذين أرادوا فرنسا جمهورية دستورية بدون الملك الذي اتُهم بالخيانة منذ بداية الثورة.
ضرور نشر مبادىء الثورة
منذ إنعقاد الجلسة الأولى للبرلمان الفرنسي الأول دار نقاش حاد بين قوى اليمين واليسار حول ضرورة نشر مبادئ الثورة الفرنسية خارج فرنسا أو الإهتمام أكثر في قضايا فرنسا الداخلية وتنظيم الدولة من جديد وإخراج البلاد من الأزمة الإقتصادية التي أخذت تتفاقم أكثر وأكثر( هذا النقاش سيكون ايضًا محور الجدل باعتقادي، داخل مصر في العام القادم بعد عقد الإنتخابات الأولى بالنسبة لإهتمام مصر في القضايا الخارجية العربية أو التركيز على القضايا المحلية في البداية). لقد أيدت القوى اليمينية في فرنسا – الجيروند- بدعم من الملك لويس السادس عشر ضرورة نشر الثورة خارج فرنسا تحت شعار الحرية، الإخاء والمساواة ودعوة شعوب أوروبا قاطبةً إلى القضاء على أنظمة الحكم الملكية القديمة ونشر الديمقراطية فيها. بالمقابل عارضت قوى اليسار – اليعاقبة – نشر الثورة بإدعاء أنّه يجب أولاً القضاء على أعداء الثورة من الداخل أمثال النبلاء ورجال الدين في الكنيسة وبعض الفلاحين الذين قاموا بحرق أراضي النبلاء وسيطروا على اراضي الدولة وعملوا على إثارة الفوضى داخل الدولة. من جهة اخرى إدعت قوى اليسار أن نشر الثورة خارج فرنسا سيوقع فرنسا الثورة في حرب مريرة مع دول أوروبا، خاصةً بريطانيا، النمسا، روسيا وبروسيا، وهذا سيصبّ، بإعتقادها، في صالح الملك الذي كان يرغب بالقضاء على الثورة وزجّ فرنسا الثورة في حرب يمكن أن تؤدي على المدى البعيد إلى القضاء على الثورة ومبادئها وعودة النظام الملكي الإقطاعي القديم من جديد.
دخول فرنسا في حرب دامية جداً
لقد أقرّ البرلمان الفرنسي قرار نشر الثورة خارج فرنسا، الأمر الذي أدّى إلى دخول فرنسا في حرب دامية جداً دامت قرابة ٢٥ عامًا ١٧٩١-١٨١٥. لقد تبين منذ بداية هذه الحرب مدى تعاون الملك لويس السادس عشر مع الدول الأوروبية ومع النبلاء الفرنسيين الذين هربوا إلى الدول الأوروبية المجاورة، كما تبين مدى ضعف الجيش الفرنسي الذي لم يكن منظمًا بشكل كافٍ وكان يعاني من أزمة إقتصادية حادة، وفي ظلّ هذه الهزائم والجو المقفهر بدأت شعبية قوى اليسار الثورية – اليعقابة – بالإزياد في صفوف الشعب الفرنسي مما دعى هذه القوى بزعامة روبسبير ودانتون إلى الإطاحة بالجمعية التأسيسية عام ١٧٩٣ وإلى الإعلان عن انتخابات جديدة للمؤتمر الوطني – البرلمان – وإعداد دستور جديد. وفعلاً تم إعداد دستور جديد ثاني للثورة تم من خلاله إجراء تغييرات هامة جداً أهمّها إقرار نظام حكم جديد أصبحت فرنسا من خلاله دولة ذات نظام جمهوري دستوري بدون ملك، يقوم جميع المواطنين في فرنسا بانتخاب برلمان ورئيسٍ للجمهورية بشكل مباشر، وقد اقرّ هذا البرلمان الجديد أيضًا إدانة الملك لويس السادس عشر بالخيانة كما تم إتخاذ القرار المصيري بإعدام الملك وزوجته ماري انطوانيت وأعوان الملك. كذلك فقد تم الإعلان عن تشكيل جيش فرنسي جديد منظمٍ اكثر ومليءٍ بالحماس ومستعدٍ لمواجهة الحرب المستمرة والتي أخذت بالإنتشار أكثر في أعقاب قرار إعدام الملك.
فرنسا والثورة
لقد شهدت فرنسا الثورة في فترة ١٧٩٣-١٧٩٥ إنتصارات كثيرة على الصعيد الخارجي، لكن وبالمقابل فقد قام روبسبير بانتهاج سياسة المقاصل والإعدام ضد القوى الملكية والنبلاء ورجال الدين والإقطاعيين والقوى اليمينية المعارضة- الجيروند- حتى أن بعض أصدقاء روبسبير من اليعاقبة لم يسلموا من المقصلة وعلى رأسهم صديقه دانتون. يطلق على هذه الفترة فترة إرهاب روبسبير أو عهد المقاصل – الجيليوتينا-. لقد حاول روبسبير أن يفسّر هذا التصرف بحجّة إنقاذ الثورة من الداخل وأن هذا الأمر يلزم القضاء على أعداء الثورة من الداخل حتى لو كلّف الأمر إدخال عشرات الآلاف من الفرنسيين إلى المقصلة. وفي نهاية العام ١٧٩٥ وبينما كان روبسبير يعرض أمام البرلمان قائمة جديدة للمقاصل، إنقضّ عليه أعضاء البرلمان وزجّوه في السجن وتم إعدامه بالمقصلة ثم تمّ إعداد الدستور الثالث للثورة والذي تزعمته قوى اليمين – الجيروند- من جديد والذي لم يتم فيه عودة الملكية إلى فرنسا من جهة كما أن هذا الدستور الثالث رفض إقرار منصب رئيس للجمهورية خوفًا من التسلط ومقابل ذلك أقرّ الدستور الثالث للثورة إقامة سلطة تشريعية من مجلسين برلمانيين ،لكل مجلس صلاحيات محددة، أما بالنسبة للحكومة فقد تقرر إقامة ما يسمى حكومة إدارة – ديراكتوار – تضم خمسة أعضاء يتم انتخابهم من المجلس البرلماني الأول وفي كل عام يقوم هذا المجلس بتغيير أحد أعضاء حكومة الإدارة وانتخاب عضو إدارة جديد بدلاً منه وكان هذا الديراكتوار مسؤولاً عن تعيين الوزراء في الحكومة. كل هذا طبعًا وفرنسا كانت تعيش حالة حرب مع معظم دول أوروبا من جهة وتعيش أزمة اقتصادية وبطالة عالية جداً واستياء كبير من حالة عدم الإستقرار السياسي للثورة في فرنسا وخيبة أمل من قيادات الثورة.
اتخاذ قرارات عسكرية
إتخذت حكومة الإدارة قراراً عسكريًا جديداً بتوصية من أحد اعضاء حكومة الإدارة – بارا – يقضي بتعيين نابليون بونابرت قائداً عسكريًا جديداً للثورة. ومنذ ظهور نابليون كقائد عسكري بدأت ملامح التغيير تلوح في الأفق ليس فقط على صعيد فرنسا فحسب بل وعلى صعيد أوروبا قاطبةً، إذ أن هذا القائد العسكري بدأ يحدث تغييرات جذرية داخل الجيش وإدخال خطط عسكرية حديثة جداً في عالم الحرب، الأمر الذي نال إعجاب ضباط الجيش الفرنسي وأدخل الحماس الكبير في صفوف الجيش الفرنسي من ناحية وفي صفوف أبناء الشعب الفرنسي عامةً، والذي بدأ يلاحظ بداية الإنتصارات الساحقة لفرنسا في النمسا وايطاليا واسبانيا وبعض الدول الاوروبية الأخرى، حتى أن نابليون بدأ يعقد إتفاقيات صلح مع الدول الأوروبية المهزومة دون ان يستشير حكومة الإدارة، كما أن الوضع الاقتصادي نتيجة الإنتصارات بدأ يتحسن بشكل ملموس مما أدّى إلى إزدياد شعبية نابليون في صفوف الشعب الفرنسي الذي بدا متفائلاً جداً من موجة هذا التغيير.
ابعاد نابليون
ومن سخرية القدر أنّ حكومة الإدارة وكمحاولة لإبعاد نابليون وشعبيته عن فرنسا قررت إرسال نابليون إلى مصر للقيام بحملة لاحتلالها بهدف ضرب بريطانيا إقتصادياً - العدو الرئيسي لفرنسا- علماً أن مصر ومنطقة الشرق الأوسط كانت تعتبر الشريان الحيوي لبريطانيا كونها تشكل الطريق التجاري الرئيسي لبريطانيا للوصول إلى مستعمراتها في الهند واستراليا. وفي عام ١٧٩٨ وصل نابليون إلى مصر ثم حاول التقدم شمالاً في فلسطين حتى وصل عكا وهناك توقفت إنتصارات نابليون لعدة عوامل منها مناعة أسوار عكا ومقاومة أحمد باشا الجزار، وتدخل بريطانيا إلى جانب الدولة العثمانية، لكن الدافع الرئيسي الذي جعل نابليون يعود إلى فرنسا عام ١٧٩٩ هو تأزّم الوضع السياسي الداخلي في فرنسا ووصول معلومات تفيد بأن هناك عناصر فرنسية يسارية تحاول الإطاحة بحكومة الإدارة ، وتحت حجة الدفاع عن استقرار فرنسا عاد نابليون إلى فرنسا واستقبله عشرات الآلاف من الفرنسيين، ثم قام بتدبير مؤامرة للإطاحة بحكومة الإدارة وتنصيب نفسه " قنصل أول " لفرنسا، وأُعلن نهائياً عن نهاية الثورة الفرنسية عام ١٨٠٠، وقد لاقى نابليون ترحيبًا كبيراً من قبل الشعب الفرنسي الذي فضّل حكمًا قوياً دكتاتوريًا مستقراً من ناحية اقتصادية على حكم ديمقراطيٍ غير مستقر وغير قادر على إحراز انتصارات عسكرية ونجاحات اقتصادية لفرنسا.
تحليل مراحل الثورة
في الأسبوع القادم إن شاء الله سنحاول معًا تحليل مراحل الثورة التي مرت بها فرنسا منذ بدايتها وحتى وصول نابليون إلى الحكم ونهاية الثورة، لكننا سنحاول معًا ايضًا التطرق الى إتجاهات تطور مراحل الثورة المصرية العربية المتوقعة، مقارنةً بمراحل تطور الثورة الفرنسية، وسنحاول الإجابة على بعض الأسئلة التي تطرح اليوم مثل : ما هو نظام الحكم الأنسب لمصر ؟ رئاسي أم جمهوري ؟ هل يجب على مصر ان تصدّر هذه الثورة إلى العالم العربي ؟ ما هي الإسقاطات والتداعيات من وراء تصدير الثورة ؟ هل يجب على مصر أن تواجه أعداء الثورة من الداخل والخارج اولاً قبل الشروع بأخذ دورٍ فعّال على الصعيد العربي ؟ هل ستنتهي هذه الثورة المصرية بالفشل بعد عشرين عامًا ؟ هل ستدخل مصر في حرب شرق أوسطية في العام ٢٠١٢-٢٠١٣؟ وأخيراً ما هو دور الرأي العام في إسرائيل في ظلّ هذا التغيير النوعي؟