غريزة الأمومة حاضرة لدى الفتيات ولكن عند البشر، تتفاوت شدتها، وبشكل خاص طريقة التعامل معها، من صبية إلى أخرى
الطفلة أو المراهقة، المنحدرة من أصول أمية متواضعة، أو ربما حتى من قبيلة "بدائية" من أدغال الأمازون، تشاطر الغريزة نفسها مع فتاة من وسط متمدن
الأمومة إحدى أهم الغرائز الإنسانية، وحتى لدى معظم الكائنات الحيوانية. وفقدانها يؤثر سلباً في نفسية الطفل والعكس الصحيح، إذ تسهم غريزة اللأمومة في تكوين نفسية سليمة للطفل. وقد آثار هذا الموضوع اهتمام العديد من علماء النفس، لاسيما منذ خمسينات القرن الماضي.
يعرف علماء النفس الغريزة على أنها "مجموع السلوكيات الموروثة، أي غير المكتسبة، الموجودة لدى الأجناس الحيوانية كلها". وعند البشر، يخلصون إلى القول إنها "الطبيعة الإنسانية نفسها، أي كل ما يخرج على إطار السلوك الثاقفي". لذا، كان طبيعياً أن يعكف على دراسة موضوع الغريزة العديد من علماء النفس والاجتماع، وبشكل خاص علماء سلوك الحيوان. نذكر منهم النمساوي كونراد لورنز (1903-1989)، وصديقه وزميله الهولندي نيكولاس تمبرغن (1907-1988)، اللذين أسسا نهج "السلوكيات المقارنة" (لدى الأجناس الحيوانية كافة). ثم وافاهما للمشاركة في الأبحاث نمساوي آخر: المدعو كارل فون فريش (1886-1982). فحاز الثلاثة، مجتمعين، جائزة نوبل في الطب والفسيولوجيا لعام1973. وكانت المرة الوحيدة التي مُنحت فيها الجائزة عن دراسات واكتشافات تتناول السلوكيات والغرائز. وتلك مجرد أمثلة عن عشرات ومئات العلماء والمتخصصين ممن تعمقوا في دراسة الغرائز، سواء لدى الإنسان أم الحيوان.
أهم الغرائز
في ما يخص الإنسان، ومعظم اللبائن (الثدييات)، تعد غريزة الأمومة إحدى أهم الغرائز، وأكثرها تجلياً وانعكاساً نفسياً على السلوك لاحقاً. وتحسب غريزة لأن تعريف مفهوم الغريزة، مثلما هو مذكور أعلاه، ينطبق عليها: فهي تندرج في إطار السلوكيات الموروثة، غير الخاضعة لتأثير المحيط الثقافي. هكذا، نجد أن الطفلة، أو المراهقة، المنحدرة من أصول أمية متواضعة، أو ربما حتى من قبيلة "بدائية" من أدغال الأمازون، تشاطر الغريزة نفسها مع فتاة من وسط متمدن، ذات تحصيل علمي متقدم (في مرحلة عمرها)، ومن أبوين متعلمين، باختصار من وسط مغاير تماماً لسابقتها، ثقافياً وسلوكياً، وحتى جغرافياً. فغريزة الأمومة حاضرة لدى الفتيات كلهن (والإناث عموماً، من الأجناس الأخرى غير الإنسان).
طريقة التعامل
لكن عند البشر، تتفاوت شدتها، وبشكل خاص طريقة التعامل معها، من صبية إلى أخرى، ولاحقاً من أم إلى أخرى. فالإنجاب مرحلة، وحسب، إذ لا يعني بالضرورة تولُّد ما يسميه متخصصو علم النفس "الشحنة العاطفية"، التي لا غني عنها من أجلٍ تجلي غريزة الأمومة تجليا عضوياً ملموساً، باعتبارها المولد الكهربائي لتلك "الشحنة العاطفية". فاحتياجات الطفل ليست "حيوية" وحسب (متمثلة في التغذية بشكل أساسي)، إنما أيضاً "عاطفية". والولادة قد تحل في ظروف لا تكون فيها الأم مهيأة نفسياً تهيؤاً تاماً للأمومة، كأن تكون في حالة انهيار عصبي، أو مرغمة على تقبل ولادة لم ترغب فيها، أو مرغمة على تقبل ولادة لم ترغب فيها، أو زُوجت عنوة، فيولد عندها شعور بالغبن، يؤدي إلى حرمان تجاه كل ما ينجم من تداعيات لذلك الزواج الإكراهي . فالغريزة الأمومية موجودة في الطبيعة، إلا أن ثمة عوامل تلجمها، أو تحجِّمها، في حين ينبغي أن تلعب دورها تاماً، منذ لحظات الولادة الأولى. فالطفل، حتى في سن ساعات، يعي وعياً طبيعياً مبهما، هو أيضاً "غريزي"، لطبيعة علاقته المباشرة مع أمه.
قصة غريبة
وذلك الوعي المبهم للطفل الوليد الجديد، وإن كان غريزياً، أثبتته دراسات، وأيضاً تجارب حقيقية. فمثلاً، في ثمانينات القرن الماضي، عمدت فرانسواز دولتو (1908-1988)، التي كانت عالمة نفس فرنسية شهيرة متخصصة في الأطفال، إلى رواية قصة حقيقية لطفل عالجته في سن 10 سنوات، قالت إنه كان من أسرة موسرة، وذكياً للغاية ومتوفقاً دراسياً، إنما يعاني مرضاً نفسياً، من الرهاب، يجعله يخاف من مسك الأشياء والآلات المعدنية (بما في ذلك أي مقبض باب، أو مقص، أو سكين، إلخ). وكانت لتلك الحالة تداعيات سلبية عليه، وعلى والديه، وتسبب في إزعاجات يومية، تعيق الطفل في حياته ومواظبته في المدرسة، وتهدد مستقبله الدراسي والمهني، ما حمل والديه على استشارة دولتو.
صدمة نفسية
أدركت دولتو (التي ألفت كتباً عديدة، تعُد مراجع قيمة لمتخصصي علم نفس الأطفال، أشهرها كتاب "عندما يظهر الطفل") أن حالة ذلك الطفل ناجمة عن صدمة نفسية ما، حرصت على السعي إلى كشف سرها. فمن دون معرفة المسببات، لن تكن قادرة على شفائه من التداعيات. وكان عسيراً إيجاد سبب تلك الصدمة، بما أن الطفل كان ينعم بحياة هادئة ومرفهة، بين والدين طيبين وحنونين، لاسيما أنه كان طفلهما الوحيد. هكذا، خصصت له جلسات تحليل نفسي قائمة على التنويم المغناطيسي. وأخيراً، أمسكت بخيط من شأنه أن يجر إلى الحقيقة. إذ، في إحدى الجلسات، بدأ الطفل يهذي بكلام أنثوي ناعم، قال فيه: "أرجوكِ يا ماما، أستميحك، أتوسل إليك، اتركيه لي". ثم غير صوته فجأة إلى صوت خشن شرير، لا يلائم سنه، قائلاً: "كلا، يا زانية، لن أتركه لك، لن تريه بعد في حياتك". وردد ذلك الحوار مرتين أخريين.
الأم البيولوجية الحقيقية
استدعت الطبيبة دولتو أم الطفل حالاً، وكلمتها على حدة، وألحت بأن تبوح لها بكل شيء. فأجهشت الأخيرة بالبكاء، واعترفت: لم يكن ابنها "البيولوجي"، إنما ابن فتاة مراهقة في سن 17 سنة حين أنجبته من علاقة محرمة، في أربعينات القرن الماضي. وكانت الفتاة سليلة أسرة باريسية معروفة، وكاثوليكية متزمتة تنبذ الإجهاض، وتعده جريمة ومعصية. لذا، درءا للفضيحة، حُجرت الابنة الزانية في أحد قصور الأسرة المنزوية في الريف واتفق والدا المراهقة الحامل مع زوجين من أعيان مدينة أخرى على تنبي الطفل حال مولده. وكانت تلك المرأة، أم الطفل بالتبني، هي الزوجة، التي حرمها عقرها من نعمة الإنجاب. كما أوضحت أن ذلك الحوار ("أستميحك يا ماما، اتركيه لي، إلخ" – "كلا يا فاجرة، لن تريه بعد في حياتك، إلخ") حصل فعلاً بين تلك الفتاة، الأم البيولوجية الحقيقية، وأمها، أي جدة الطفل، بينما كان هذا الأخير وليداً جديداً في سن 24 ساعة وحسب. فبعد يوم من مولده، جاءت "أمه" الجديدة لأخذه من القصر المنزوي، حسب الاتفاق مع جدة الطفل. وما يثير القشعريرة: أقسمت الأم بالتبني أنهالم ترو ذلك الحوار لأحد آخر، حتى لزوجها، تهرباً من عقدة الشعور بالذنب، التي لاحقتها منذ تلك اللحظة. هكذا، تعجبت الاثنتان، الطبيبة دولتو والأم بالتبني، كيف عرف الطفل بفحوى ذلك الحوار، فرده حرفياً وبدقة، في حين لم يخبره به أحد قط.
رأي العالم البريطاني
وبما أن الطفل تفوه بتلك الجمل الغريبة وهو في حالة تنويم مغناطيسي، ترسخ رأي المحللة النفسية الفرنسية من أن لأي طفل إدراكاً مبهماً عن أول أيام حياته، وحتى ولادته نفسها، يحمله في لاوعيه طوال عمره، ويؤثر في سلوكه. بل يذهب بعض علماء النفس حد قبل الولادة، إذ يحس الجنين، في رأيهم، بأحاسيس أمه، وتنعكس حالتها النفسية على نفسيته، فيأتي إلى العالم منشرحاً، أو على العكس مكتئباً، حسب مزاج أمه أثناء حمله. في أي حال، عالجت دولتو الطفل علاجاً نفسياً قائماً على أساس تخليصه من تلك الصدمة النفسية. التي عاشها في سن يوم واحد، حين انتزع انتزاعاً من حضن أمه البيولوجية، وأولى إلى امرأة أخرى. فتمكنت من محو آثارها، وتخص الطفل من ذلك الرهاب المزعج، وعاش بقية حياته بشكل طبيعي، متألفاً في الدراسة والحياة. إذ أكدت دولتو أنه، وقتها (في ثمانينات القرن، أي في أربعينات عمره)، أصبح "شخصية بارزة معروفة للغاية". لكن، رفضت الطبيبة كشف هويته، أو تحديد ما إذا كان أصبح سياسياً أم من أوساط الفن والمشاهير، مرددة أنه بات معروفاً جداً.
تغذية الطفل
على صعيد آخر في خمسينات القرن الماضي، عكف عالم نفسي بريطاني، اسمه جون باولبي، على دراسة تلك العلاقة الغريزية، بين الأم وطفلها، دراسة مستفيضة، استنتج من خلالها أن تغذية الطفل (وتحميمه وتبديل حفاضاته، وما إلى ذلك) غير كافية لسلامته النفسية والذهنية إن لم تكن مصحوبة بعاطفة حقيقية، يلمسها الطفل حقاً ويدركها، حتى إذا كان وليداً جديداً.
الشحنة العاطفية
بل (بخلاف النمساوي الشهير سيغموند فرويد)، ذهب باولبي حد توكيد أن "الشحنة العاطفية"، بالنسبة إلى الطفل، أكثر أهمية من الحاجات الحيوية، أي الغذاء نفسه. إلى ذلك، أكد العالم الإنجليزي أن العلاقة البيولوجية، بين الطفل وأمه، ليست حاسمة. ويبدو ذلك التوكيد مناقضاً نوعاً ما للقصة التي روتها زميلته الفرنسية دولتو (بما أن سر المرض النفسي الذي ألم بالطفل المعالج كان، تحديداً، انتزاعه من أمه البيولوجية). أما باولبي، فأوضح أنه رأى اطفالاً ربتهم "امهات" غير أمهاتهم البيولوجيات، فكبروا في أتم صحة نفسية وعقلية وذهنية، بينما، في المقابل، عالج حالات لأطفال ومراهقين يعانون اضطرابات نفسية، على الرغم من كونهم عاشوا مع أمهاتهم البيولوجيات طوال حياتهم. واستخلص أن مرد اضطرابات هؤلاء النفسية، في الحالات كلها التي عالجها، كان عدم تولد تلك "الشحنة العاطفية" المنشودة.
العوامل النفسية المؤدية
وبما ان، ذلك القصور (متمثلاً في عدم نسج الألفة اللازمة والحرص على مواصلتها كعامل لا غنى عنه من أجل سلامة الطفل العقلية) متأتِّ من كبح جماح غريزة الأمومة (أو تعرض هذه العوامل مفضيةٍ إلى تحجيمها أو لجمها أو تلاشيها، كلياً أو جزئياً)، استنتج باولبي، بالاستعاضة، أن غريزة الأمومة تضطلع بدور حاسم في تحديد مجمل العوامل النفسية المؤدية، في نهاية المطاف، إلى تكوين شخصية الإنسان. لذا سيدتي، اسعي دوماً إلى كشف أي عوامل، حتى وإن كانت طفيفة، قد تؤدي، من دون شعورك، إلى إضعاف غريزة الأمومة عندك. فهذه كنز ينبغي الحفاظ عليه.