- إبراهيم صرصور في مقاله:
* حزب الوفد كان في طليعة الأحزاب التي مثلت الأماني الوطنية للشعب المصري قبل الثورة
* ثورة يوليو / تموز 1952 في مصر لتعالج أوضاعا معقدة وعلى جميع المستويات عاشتها مصر
ككل الثورات في العالم التي تأتي نتيجة طبيعية لتردي الأوضاع في بلد ما ، جاءت ثورة يوليو / تموز 1952 في مصر لتعالج أوضاعا معقدة وعلى جميع المستويات عاشتها مصر في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية . في هذه المرحلة بالذات وقعت مصر ضحية عدد كبير من الأزمات السياسية والاجتماعية وعلى رأسها الاستقلال وإنهاء آخر صور الاحتلال الانجليزي والحكم الملكي بما يمثلانه من ظلم وإجحاف في حق الشعب المصري على مستوى الداخل ، وضياع فلسطين وما تمثله من سقوط مدوي لكل الطروحات العلمانية والحلول المستوردة ، على مستوى الخارج . أدت هذه الأوضاع إلى خلق حراك سياسي وميداني على امتداد عقود انتهى بقيام الضباط الأحرار ( بحركة ) هدفت إلى تغيير الأوضاع جذريا بما يخدم الاستقلال والديمقراطية والحرية والعدالة والتنمية ، تحولت فيما بعد إلى ثورة سجلت في تاريخها صفحات بيضاء ، لكنها في الوقت ذاته سجلت صفحات شديدة السواد خصوصا في ملف الديمقراطية والحريات العامة وإدارة المواجهة مع إسرائيل .
المقدمات المبشرة بالتغيير
من المعروف أن حزب الوفد كان في طليعة الأحزاب التي مثلت الأماني الوطنية للشعب المصري قبل الثورة ، وإن آمن ( بالمفاوضات ) كسبيل وحيد لتحقيق الاستقلال والتخلص من الاحتلال والهيمنة البريطانية ، استمرت على مدار الفترة بين الحرب العالمية الأولى والثانية ، حيث انتهت بالتوقيع على معاهدة عام 1936م . كانت موافقة حزب الوفد على بقاء وجود عسكري بريطاني ( قاعدة عسكرية ) على أرض مصر حسب المعاهدة ، بداية النهاية للجهة التي علق عليها المصريون آمالهم في الخلاص والحرية ... كان سوء استعمال بريطانيا لبنود المعاهدة ، وزيادتها في الضغط السياسي والاقتصادي على مصر ، السبب الذي حدى بالمصريين إلى المطالبة ابتداء بتعديل المعاهدة ، ثم بعد ذلك بإلغائها في العام 1951 ، وذلك بعد انحياز مجلس الأمن إلى بريطانيا ضد المطلب المصري ...
نجاح اليهود في إقامة دولتهم
الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لم تكن اقل سوءا ، فقد أدى تردي الأوضاع إلى اضطرابات واسعة النطاق اجتاحت كل القطاعات العمالية والنقابية ، كما كان لسيطرة الإقطاع الذين يشكلون أقل من واحد بالمائة من الشعب المصري على ثلث الأراضي الزراعية ، في الوقت الذي يعيش فيه ملايين الفلاحين حياة فقر مدقع ، أدت كلها إلى تحديات فشلت الحكومات وفشل الملك في مواجهتها ووضع الحلول الشافية لها ...
أما قضية فلسطين ونجاح اليهود في إقامة دولتهم على أرضها وعلى حساب شعبها المنكوب ، والتي انتهت بهزيمة منكرة للنظام السياسي المصري والعربي ، وعجزه المطلق بل وتخاذله وتواطؤه مع دول الاستعمار وعلى رأسها بريطانيا ، في مقابل المرارة التي عادت بها الجيوش العربية وبالذات الضباط والجنود المخلصون من الحرب وقد رأوا بأنفسهم الثمار النكدة لسياسات النظام العربي الرسمي الموالي لبريطانيا ، ومن ثم انقلاب هذه الأنظمة وبالذات في مصر ضد كل المجاهدين من أبناء الشعب الذين سجلوا في حرب فلسطين صفحات أسطورية ، فأودعوهم السجون وأعلنوا عليهم الحرب وقتلوا قياداتهم كما حصل مع حركة ( الأخوان المسلمون ) على يد الملك فاروق ورئيس وزرائه إبراهيم عبدالهادي ...
نضوج فكرة التغيير الجذري
كان لكل ذلك أثره في نضوج فكرة التغيير الجذري في مصر بشكل ينهي الوضع القائم لمصلحة وضعٍ جديد يحقق للشعب لمصري وللأمة ما تصبو إليه من أهداف سامية ... أصبح واضحا فشل النظام السياسي في تسيير الأمور وضبط الأوضاع ، مما شكل بداية العد التنازلي للنظام الملكي وأعوانه ، والذي انتهى بحركة الضباط الأحرار التي لم يستقر الباحثون حتى الآن على تسميةٍ محددة لها ، فمن ( حركة ) إلى ( انقلاب ) وإلى ( ثورة ) ، وكلها تدل على مدى ما يعانيه أهل الاختصاص في قراءة مشهد هذا الحدث وآثاره سلبا أو إيجابا ...
الطريق إلى ( الضباط الأحرار ) ، ومنها إلى الثورة
جاء في أكثر من مصدر تاريخي وبالذات تلك كتبها بعض من الضباط الأحرار أنفسهم كحسين حموده وجمال حماد ، أن ( التنظيم السري للضباط ) والذي كان من أعضائه البارزين اغلب من سموا فيما بعد ( بالضباط الأحرار ) ومنهم جمال عبدالناصر ، هو التنظيم السري العسكري لجماعة ( الإخوان المسلمون ) ، والذي توقف عمله بعد حرب فلسطين لأسباب أمنية وبسبب استشهاد عدد كبير من عناصره وضباطه ... يقابله ( التنظيم السري المدني ) لشباب الإخوان برئاسة عبدالرحمن السندي ، والذي حرص جمال عبدالناصر وزملاؤه على المساهمة في تدريب عناصرهما قبل حرب فلسطين ، على اعتبارهم أي عبدالناصر وزملائه جزءا من الجماعة ... بدأ عبدالناصر يفكر جديا على ضوء التطورات ، وحرصا منه على حماية عناصر التشكيل الجديد ، أن يقطع علاقاته ( بالتنظيمين السريين العسكري والمدني ) للإخوان ، وإن يقيم بدلا منهما تنظيما جديدا يضم في صفوفه عناصر من التنظيم السري السابق للإخوان في القوات المسلحة ، وعناصر أخرى من زملائه في حرب فلسطين ، على أن يضيف إليه أيضا عناصر من غير المتدينين ، مبالغة منه في إبعاد الشبهات عنه ...
التنظيم الجديد وجماعة الإخوان
جاء في كتاب ( أسرار حركة الضباط الأحرار ) لحسن محمد حموده احد الضباط الأحرار ردا على نهج عبدالناصر الجديد ، ما يلي بالحرف : " ... فقلت لجمال عبدالناصر إننا انضممنا للإخوان على أساس مبادئهم التي اقتنعنا بها وهي أن يكون الحكم بكتاب الله تعالى وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم . فقال : اطمئن من هذه الناحية ، فما دام زمام الأمور في يدنا فسنحكم بالقرآن إن وفقنا الله في الاستيلاء على السلطة في مصر . وأضاف : لقد اتفقت مع محمود لبيب ( رئيس التنظيم السري في الجيش ) على أن يكون اسم التنظيم الجديد ( الضباط الأحرار ) ، حتى نبعد الشبهة عن الإخوان المسلمين . " ... انتهى ... وهكذا ضمن جمال عبدالناصر الفصل بين التنظيم الجديد وجماعة الإخوان وهي القضية التي أثارت خلافا حادا بينه وبين زميله عبدالمنعم عبدالرؤوف الذي أصر على بقاء العلاقة بينهما مما أدى إلى استقالته من التنظيم رغم مشاركته المباشرة في تنفيذ خطة الثورة ، حيث كان من نصيبه إجبار الملك على التنازل عن العرش .
دور ( الإخوان المسلمون ) في الثورة
نعود مرة أخرى لشهادة حسن حمدوه الذي أشرت إليه سابقا لنكتفي بها دليلا على مساهمة ( الإخوان المسلمون ) الحاسمة في نجاح حركة الضباط الأحرار . يقول بالحرف في ذات المصدر أعلاه وهو يصف الأحداث بعد ساعات من نجاح الحركة : " ... فذهبت للقيادة العامة وقابلت جمال عبدالناصر فأخبرته بما دار بيني وبين طلعت حكمدار بوليس العاصمة ( كان خائفا كما يبدو من انتقام الإخوان من إبراهيم عبدالهادي رئيس الوزراء السابق بسبب جرائمه بحق الإخوان بعد حرب فلسطين ) ، فقال عبدالناصر : اطمئن جدا من ناحية الإخوان فأنا ( أي عبدالناصر ) متصل بحسن الهضيبي ( المرشد العام للإخوان ) ، وأخذت موافقته قبل قيام الثورة ، وأنا متفاهم مع الإخوان المسلمين على كل شيء ، ولا خوف على حياة إبراهيم عبدالهادي من انتقامهم . والإخوان يتعاونون معنا ويقومون الآن بحراسة مرافق البلاد الحيوية والسفارات الأجنبية ، ولهم عناصر مسلحة على طريق الإسماعيلية القاهرة وفي منطقة قناة السويس لمراقبة تحركات القوات البريطانية أولا بأول ، وإبلاغنا بأي شيء يرونه . "... انتهى ...
الثورة
نجحت الحركة / الانقلاب / الثورة ... كان الناس ينتظرون أن تبدأ مسيرة الإصلاح سريعا ، وعلى أن تكون عودة الحياة النيابية والديمقراطية وإطلاق الحريات وإلغاء كل أشكال الدكتاتورية والاستبداد وإنهائها إلى غير رجعة ... لقد رأوا في محمد نجيب قائد الثورة ، وصاحب الشعبية الواسعة والسمعة الطيبة في أوساط الجيش والشعب ، والمعروف بكرهه الفطري للاستبداد وحبه للحرية والتعددية ، وحرصه على الإسراع بالعودة بالجيش إلى الثكنات وتحديد موعد الانتخابات الحرة والديمقراطية ، يمارس فيها الشعب حقه في حكم نفسه ، رأوا في ذلك كله بداية الأمل في عودة الوعي للشعب المصري وبدئ عجلة النهضة والبعث لمصر والأمة ... فهل تحقق هذا ؟؟؟
الثورة : ما لها وما عليها
لا يستطيع احد أن ينكر أن الثورة حققت مجموعة من الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية ، إلا أنها قتلت وبدم بارد الحياة الديمقراطية والنيابية والحريات العامة وكرامة الإنسان ، وأطلقت العنان للغرائز الحقيرة والممارسات الدنيئة ، وفتحت السجون وارتكبت فيها المذابح ضد أحرار الشعب المصري من كل الألوان السياسية حتى لم ينج منها عدد كبير من الضباط الأحرار أنفسهم ... كان السقوط المدوي في الامتحان الأكبر بداية الثمن المؤلم الذي دفعته مصر والأمة العربية والذي وصل ذروته في هزيمة العام 1967 ، والتي أعْلِنَ فيها موت عبدالناصر السياسي الفعلي ، بينما دُفِنَ فعلا في العام 1970 ...
الثورة ولغت في دمائهم
لقد انقلبت الثورة على أبنائها فولغت في دمائهم حتى ما بقي منهم في العام 1970 إلا السادات وحسين الشافعي اللذين كانا أضحوكة المجموعة المتنفذه من المتسلقين على أكتاف الثورة والمستفيدين من خيراتها / سمومها ، والذين سموا فيما بعد بمجموعة مراكز القوى : علي صبري وشعراوي جمعة وسامي شرف ومحمد فوزي ... لعل قصة محمد نجيب مع الثورة والوضع الذي آل إليه حتى وفاته ،و شطبه من كتب التاريخ أيام الثورة حتى ما عاد احد من جيل ما بعد الثورة يعرف شيئا عنه ، إلا ما سمحت به ماكينتها الإعلامية المباركة ، ما يشير إلى الحال المبكي المضحك الذي وصلت إليها الأوضاع في مصر في تلك الحقبة ...
مفاصل تفكيكية لا بد منها
الحديث عن ثورة 23 يوليو 1952 هو في الحقيقة حديث عن : عبدالناصر الشخص والزعيم وقد مضى إلى الله وقدم على ما عمل ، وهو الآن بين يدي من لا يغيب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء ، والناصرية كمنهج وفكر ليست في التحليل الحيادي أكثر من تجربة بشرية فيها الغث والسمين والخطأ والصواب والحق والباطل ، لكنها لم تنجح في إحداث التغيير المنشود الذي كانت مصر تتطلع إليه ، وأخيرا فترة الحكم الناصرية ، فقد كانت فشلا ذريعا على مستوى الداخل وبالذات في الحياة السياسية والاجتماعية ، وفي تعاطيها مع ملف الصراع مع إسرائيل ، فيما خلقت مناخا إقليميا عربيا عاما مهد لتحرير أغلب البلاد العربية من الاحتلال والاستعمار ، وإن وجد الزعماء الجدد في عالمنا العربي بعد الاستقلال في دكتاتورية عبدالناصر نموذج الحكم الذي اختاروه لأنفسهم ، فكانوا هم أيضا وبالا على شعوبهم حتى اللحظة ...
الدرس المستفاد
والسؤال الأخير الذي لا بد أن نطرحه هنا هو : هل تعيش اغلب دولنا العربية اليوم ظروفا داخلية أشبه ما تكون بالظروف التي عاشتها مصر قبل ثورة 1952 ؟؟!! وهل يمكن أن نفاجأ بثورة ضد هذه الظروف على نحو ما بدأت به ثورة 1952 ؟؟!! وهل ستتعلم ثوراتنا القادمة من تجربة ثورة 1952 في مصر ، فتكون خيرا على شعوبها بدل أن تكن شؤما ونكالا عليها ؟؟!!! ...