الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 20 / سبتمبر 16:02

شدّوا الرحال الى النقب

بقلم: الشيخ رائد
نُشر: 22/03/06 18:58

شدّوا الرحال الى النقب


1- ( كان الطقس مغبرا والغيوم سوداء متلبدة تحجب رؤية السماء التي عادة ما تكون زرقاء صافية ، والرياح تشتد أحيانا لتنقل معها بعض رمال بلادنا بعيدا، وتأتي بالرمال من صحارى الأرض لتبسطها على بلادنا ، في تلك اللحظات كان شيخ عشيرة بني عقبة يمتطي جواده الأصيل ليحمله الى مكتب الحاكم العسكري تنفيذا لأوامر سعادته ، كان رجال الحاكم العسكري يأتون كل صباح بأمر يدعون فيه الشيخ لمقابلة الحاكم في مكتبه الكائن في مدينة بئر السبع أو في مكتبه بالقرب من منطقة العراقيب ، وفي كل مقابلاته خلال فترة اربعة شهور يتلقى الشيخ التهديد والأوامر الحازمة بالرحيل من موقع العشيرة الى مكان آخر ، كان الشيخ يتساءل دائما » لماذا الرحيل وقد أصبحنا مواطنين في اسرائيل ، وهذه ارضنا ومن أجلها بقينا تحت حكم دولة اسرائيل » ، وفي النهاية جاء الجواب ، حيث قال سعادته بعد أن سحب دخان غليونه ثم أخرجه مبتهجا:»منطقتكم مطلوبة للتمارين العسكرية بصورة مؤقتة ولفترة ستة أشهر ، بعدها تستطيعون العودة الى مكانكم ، ولا مجال لمخالفة أوامري هذه »

واستجابة لطلب الشيخ امر الحاكم احد ممثليه أن يكتب على وريقة بما معناه أن أبناء عشيرة العقبي سيحصلون على اراض واسعة لزراعتها لموسم واحد بعدها يعودون الى اراضيهم ، وقد تبين بأن الاراضي البديلة ما هي إلا اراض لمزارعين عرب آخرين ، كنت وأنا في العاشرة من عمري أشاهد كل مساء الرجال والشيوخ يجلسون حول بكرج القهوة حيث يقدم أحدهم فناجين القهوة والشاي الى الجالسين ، وهم يتبادلون الآراء ويتساءلون ما العمل وكيف يعالجون مصيبتهم ، كان الخوف من رجال الحكم العسكري الظالمين يطغى على برامجهم في مواجهة نكبتهم ، حيث يلغون في الصباح ما تقرر في المساء ، فقد الاولاد مدرستهم قبل الترحيل ، وكذا تفرغوا للعب ساعات طويلة من النهار ولم يبعدهم عن بعضهم ويخيفهم إلا ضجيج سيارات رجال الحاكم العسكري من الشرطة العسكرية الذين كانوا يطلقون الرصاص في الهواء وبعض الأحيان يصوبون سلاحهم نحو البهائم والكلاب بهدف قتلها


ومرت الأيام والشهور وحلت الكارثة بعد التهديد والوعيد ، أيقن الشيوخ ورجال العشيرة أنه لا سبيل امامهم إلا أن ينفذوا أمر التهجير القسري

كان ذلك صباح يوم 13 تشرين الثاني 1951، حين وصلت الشاحنات العسكرية لتنقل الأمتعة الكثيرة التابعة للسكان وتبتعد بها نحو الشرق ، نظرت الى بستان عائلتي ، الذي أتذكر أشجاره وثماره من التين والرمان واللوز والعنب ، وقد أصبحت الأشجار جرداء من أوارقها التي تطايرت مع الرياح ، كأنها تودعنا الوداع الأخير ) هذه المقدمة بكاملها افتتحت بها هذه المقالة لأنها تعبر بأسلوب موجز إنفعالي وحزين عن مأساة اهلنا في النقب من البداية حتى الآن ، وهذه المقدمة هي فاتحة كتاب بعوان » ننتظر العدل » للأستاذ نوري العقبي ، ورغم أنه تحدث من خلالها عن مأساة ترحيل عشيرة العقبي إلا أنها نموذج يمثل عينة من مأساة ترحيل كل أهلنا في النقب


2- نعم انها مأساة الترحيل التي عصفت بالأهل في النقب منذ اكثر من خمسين عاما ، وهي مأساة التشرد والتشرذم لصاحب الوطن في وطنه ولصاحب الأرض في أرضه ، وهي مأساة الأهل الذين ما زالوا يعانون منذ اكثر من خمسين عاما من نار النهب والسلب لأرضهم وزرعهم وضرعهم وشربهم ورزقهم ، وما زالوا يعانون منذ اكثر من خمسين عاما من بشاعة الإستغلال والغش الذي سقط عليهم ، ومن قبح العراقيل التي لا تزال منصوبة في وجوههم وهم يبحثون عن العدل المفقود والحق المسلوب والأرض المغتصبة


3- نعم انها مأساة ترحيل وقعت على أهلنا في النقب منذ 1948م رغم انهم كانوا ولا يزالون هم اصحاب الأرض ، وكانت ارضهم تعرف كأراضي (ميري) أي يحق لصاحبها الذي يقوم بزراعتها دون منازع الحق المشروع بتطويبها حسب القانون ، ورغم أنهم على مدار وجودهم فيها وعليها لم تتنكر الدولة العثمانية لحقهم فيها ولم يتنكر لهذا الحق حتى الإنتداب البريطاني !! ولكن بعد نكبة فلسطين عام 1948م بدأت المأساة وتم طرد معظم اهل النقب خارج حدود وطنهم ولم يبق منهم إلا القليل !! اما من وقع عليهم الطرد فلا يزالون يعيشون الى اليوم في بعض الدول العربية المجاورة لوطنهم الأساس
4- وبعد ان تم طرد معظم الاهل الى خارج وطنهم تم في تشرين الثاني عام 1948م عقد اجتماع شارك فيه 16 شيخا بدويا من أهلنا في النقب وبعض ممثلي المؤسسة الاسرائيلية خاصة من قيادة الجيش وكان من ضمنهم ( يجئال يادين ) حيث تم في هذا اللقاء صياغة وثيقة اكدت للبدو » صيانة حقوقهم وكرامتهم وأراضيهم وأسلحتهم تحت حكم دولة اسرائيل حديثة العهد والعيش تحت لوائها كمواطنين لهم فيها كامل الحقوق مقابل إخلاصهم للدولة وعدم المس بأمنها

» ولكن هيهات هيهات !!فقد نقضت المؤسسة الرسمية هذه الوثيقة ولما يجف حبرها بعد


5- لم يمض على هذه الوثيقة سوى عامين واذ بالمؤسسة الرسمية العسكرية التي طردت معظم الأهل عشية النكبة مباشرة ، واذ بهذه المؤسسة تواصل مؤامرة الطرد عام 1951 حيث بدأت تقوم بنقل بعض العشائر من ارضها الى مناطق اخرى بواسطة شاحناتها العسكرية وعلى سبيل المثال فقد نقلت أبناء عشيرة العقبي من ارضهم الى منطقة حورة التي عرفت بأسم منطقة المعزل وفرضت عليهم منع الخروج منها أو الدخول إليها إلا بتصريح من الحاكم العسكري ، وبطبيعة الحال كانت المؤسسة الرسمية تباشر هذا الطرد موهمة الاهل أنه عبارة عن انتقال مؤقت بسبب دواعي عسكرية وأمنية وسيعودون بعد ستة أشهر الى أرضهم وبيوتهم ولكن هيهات هيهات


6- كانت تمضي ستة أشهر ثم تمضي ستة أشهر ثانية وثالثة ورابعة ولا يؤذن لهم بالعودة ، ومن كان من الأهل يتمرد على هذا الظلم المبرمج ويعود الى ارضه ، كانت المؤسسة الرسمية تهدم بيته الذي كان قائما في ارضه المسلوبة ثم تعتقل هذا المتمرد وتودعه السجن بهدف ردعه وردع الآخرين ، وظل هذا الظلم جاثما على صدور الأهل مع توالي الأشهر والسنوات حتى هذا العام الذي نعيش فيه عام 2006م


7- ومنذ عام 1948 حتى هذا العام 2006م لم تبد المؤسسة الرسمية أية مبادرة جادة وعادلة لرفع هذا الظلم التاريخي عن الاهل في النقب !! نعم تم خلال هذه الاعوام إقامة بلدات رسمية ومعترف بها مثل رهط وحورة ولقية وكسيفة وعرعرة وتل السبع وشقيب السلام ولكن كان هناك هدف سلطوي مبيت من وراء ذلك وهو محاصرة الأهل في أضيق مساحة ارض ومن ثم الاستيلاء على ارضهم وإلغاء وجودهم وشطب واقعهم بما حمل من اسماء قرى وما تضمن من مسميات هذه القرى !! وخلال هذه الأعوام كانت هناك محاولات سلطوية رسمية لاستدراج الاهل كي يوافقوا على ما عرف بقانون البدو الذي سن عام 1980م ، حيث كانت المؤسسة الرسمية تستدرج بعض الأفراد من اهلنا للقبول بشطب طلب ملكيتهم لأرضهم في دوائر التسوية وعلى اثر ذلك كانت المؤسسة الرسمية تعترف للواحد منهم بـِ 20% من ارضه فقط بشرط ان يتنازل عن 80 % وبشرط ان يكون من المالكين اصلا لمساحة ارض اكبر من 400 دونم


8- ولم تتوقف المأساة عند مأساة الأرض واصرار المؤسسة الرسمية على مصادرتها بل بدأت المؤسسة الرسمية بفرض مأساة اخرى على الأهل ألا وهي مأساة هدم المساكن تحت ذريعة انها مبان غير قانونية !! وهكذا بدأت هذه المأساة الأخرى ولم تتوقف حتى الآن !! رغم ان البيوت التي يقع عليها الهدم هي في غالبها بيوت صغيرة ومكتظة للغاية ، ومما زاد المأساة قسوة وظلما انه لا يزال يجري تغريم الكثير من أصحاب البيوت المهددة بالهدم بمبالغ طائلة ، ولا يزال يجري امرهم بهدم بيوتهم بأيديهم ، ولا يزال هؤلاء المطاردون في ارضهم وبيوتهم يعانون من بطالة مستمرة وفقر مدقع وحاضر محاصر ومستقبل مجهول ، ولا يزال يعاني اولادهم من الحرمان المتواصل ، فلا روضة أطفال تحتضنهم ، ولا مدرسة ترعاهم ولا فرع لصندوق المرضى يتفقدهم ، وحتى اليوم لا يزالون محرومين من ربط بيوتهم بشبكة الكهرباء وخطوط الهواتف رغم ان اعمدة الكهرباء والهاتف قد مزقت ارضهم ولا تزال تحاصر مضاربهم ، وحتى اليوم لا يزال بعضهم يعاني من خطر التلوث لقرب مضاربهم وقراهم من مصنع ديمونا الذري او لعبور جداول مياه صناعية ومياه عادمة لمدن يهودية قرب بيوتهم ، ولا يزالون يعانون من حرق مزروعاتهم وابادتها ، ومن قلع زيتونهم ومصادرة مواشيهم أو تسميمها !!
9- كل هذا الظلم الاسود لا تزال توقعه المؤسسة الرسمية على أهلنا في النقب في نفس الوقت الذي تقوم فيه هذه المؤسسة بتسليم المواطنين اليهود اكبر مساحة ممكنة ، حيث يقطن حوالي أربعين ألف مواطن يهودي في أكثر من مائة مستوطنة من الفالوجة شمالا وحتى إيلات جنوبا ويزرعون مليون ومئتين وستين ألف دونم ، كما يستغلون حوالي 300 مليون كوب من المياه بهدف تطوير الزراعة وتربية الأسماك


10- ومن الواضح جدا للأعمى والبصير أن أهلنا في النقب قد باتوا يعيشون اليوم في صحوة مبصرة وقوية وباتوا يصرون على البقاء بكل ثمن في قراهم التي تعرفها المؤسسة الرسمية أنها قرى غير معترف بها ، كما وبات الأهل يصرون على العودة الى أرضهم التي كانت ولا تزال لهم قبل وبعد نكبة فلسطين عام 1948م ، لذلك فإن من الواضح ان المؤسسة الاسرائيلية الرسمية التي تدرك ذلك جيدا أخذت تقوم بمشاريع استيطانية مختلفة بهدف قطع الطريق على هذه الصحوة المبصرة والقوية عند أهلنا في النقب ، وبهدف طي ملفهم وفق أطماعها وعلى مقاسها


11- وعلى هذا الاساس باتت المؤسسة الرسمية تطرح مشروع ( العزبة الفردية ) لليهود فقط ، بمعنى ان يقوم فرد يهودي واحد باستغلال مئات دونمات الارض لشخصه فقط في النقب تحت هذا الاسم ( العزبة الفردية ) وعلى هذا الاساس بدأت المؤسسة الرسمية تضع الخطط الاستيطانية في النقب تحت اسم » تطوير النقب » علما ان الاسم الذي يجب ان تصرح به هو » تهويد النقب » ، وعلى هذا الاساس هناك مخطط لطرد كل الأهل وقلعهم من الأرض والبيت والدفع بهم الى المستقبل المجهول تحت اسم إلغاء القرى البدوية غير المعترف بها ، وعلى هذا الأساس قد يتسبب هذا المخطط بقلع أربعين الف من أهلنا و أكثر ، وعلى هذا الأساس بات بعض الرسميين في المؤسسة الاسرائيلية يتهدد ويتوعد ويصرح علانية انه لن يتردد بنقل اساليب طرد المستوطنين من غزة وفرضها على أهلنا في النقب ، وعلى هذا الاساس بدأت المؤسسة الاسرائيلية تقرن بين تهويد الجليل وتهويد النقب ، وعلى هذا الاساس أوكلت المؤسسة الاسرائيلية مهمة تنفيذ هذا المخطط الى ذاك الشخص الذي قيل عنه عشية انتخابات كنيست سابقة ( صوِّت لبيرس والسلام) !!


12- على اثر كل ما تقدم من مشاهد هذه المآسي والويلات التي لا تزال تقع على أهلنا في النقب فاننا نذكر ان مأساة الأوقاف والمقدسات في النقب ما زالت جرحا عميقا ومفتوحا ينعب دما حتى الآن !! فالى الآن ما تزال بلدية بئر السبع تصر على تحويل المسجد الكبير في بئر السبع الى متحف !! والى الآن لا زلنا ممنوعين من صيانة المقبرة الكبيرة هناك والتي باتت تتعرض للسلخ تدريجيا يوما بعد يوم ، والى الآن ما زالت هناك العشرات من مساجدنا ومقابرنا تشكو الى الله ظلم الظالمين المصرين على ظلمهم حتى الآن


13- ولأننا نعتبر انفسنا نحن وأهلنا في النقب كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، ولأننا على ضوء ذلك ندرك موقنين ان مأساتهم هي مأساتنا وان حاضرهم هو حاضرنا وان مستقبلهم هو مستقبلنا ، ولأننا كنا على تواصل دائم عبر السنوات الماضية مع كل اهلنا في النقب ، وعلى شرف يوم الارض لهذا العام فاننا رأينا في الحركة الاسلامية ان نعمل على اقامة معسكر عمل اسلامي كبير جدا في النقب وذلك بتاريخ 1/4/2006م ، حيث سنحشد فيه أكبر عدد ممكن من اهلنا من المثلث والجليل والمدن الساحلية واستنفارهم لشد الرحال الى النقب في هذا اليوم ، وحيث سنقوم باذن الله تعالى بانجاز كثير من المشاريع الحيوية لبعض القرى في النقب والتي من شأنها ان تدعم مسيرة اعمار هذه القرى في اكثر من مجال حيوي وضروري ، وعليه فاننا نأمل ان يكون هذا اليوم بمثابة عرس بناء حاشد نشمر فيه عن سواعدنا ونبني فيه ونشق الطرق ونقيم الجسور ونرمم البيوت والمساجد ونصون المقابر والموفق هو الله تعالى

فهيا يا اهلنا في الجليل والمثلث !! ويا اهلنا في عكا وحيفا ويافا واللد والرملة !! قوموا قياما صادقا وانهضوا باكرا في هذا اليوم كي نشد الرحال سوية الى النقب ونزرع مع الأهل هناك من خلال هذا المعسكر الكبير جذور البقاء والصمود

مقالات متعلقة

.