ينامُ الموجُ على حِضن الشاطئ، وتغفو الأزهارُ على وسائدِ التراب، وتتقوَّسُ السنابلُ على بساط النسيم، وتأوي الطيورُ إلى عشوشها، وما من شيء غيرك أيها القلبُ الحبيب يبقى معي في دياجي الليل
أنظُرُ إلى السماء فأجد القمرَ يَرصُدُ العشّاقَ ليَسمَعَ حديثَهُم، وأنظُرُ إلى سماء قلبي فأجِدُ فيها بدرًا أكتُبُ على ورقه شيئًا من هواجس عاطفتي على شُرَفِ السَّهَر
أنظُرُ إلى المساكن في سَكينة هذا الليل الدجوجيّ، فأجدها مُظلمةً كشَعر محبوبتي، وأنظُرُ إلى مَساكن قلبي فأجِدُها مُنيرةً بالأحبَّاء واللدات كبَسمتِها المعزِّية
أنظُرُ إلى جسدي فأجده مُثقَلاً بأعباءِ الحياة وتكاليفِها، وأنظُرُ إلى قلبي فأجده طائرًا يُغرِّد على غصون المحبَّة صباحَ مساءَ وَيطيرُ بي إلى عالَمِ الحرية والجمال
فيا أيها القلبُ الذي أعطيه خفقاتي فيعطيني كلماتي وأملؤه تَرَحًا فيملؤني فرحًا وأحْبِسُه في قفصِ جسدي فيُطلِقُني من سِجْنِ نفسي نائيًا عن لَغَطِ الحياة! كم مرة أَوَيْتُ إليكَ حزينًا فنهضتُ من عندك فَرِحًا، وكم مرة أقبلتُ عليكَ مُجرَّحًا فضمدتَّ جراحي وألبستَني درعًا من الحماسة والإقدام، وكم مرة قد شَغَلَتْني عنكَ شواغلُ الحياة، فَبَقِيتَ معي في شقاوتي وسعادتي!
يَدفَع كثيرٌ من الناس أعمارَهم ليَجمَعوا أكداسًا من المال، وأنا لا أزال أدفَع لَحَظاتي لأجمَعَكَ أيها القلبُ الحبيب في روحي صارفًا عنكَ كلَّ شائبة
فما انتفاعُ الإنسان بماله إن أضاعَ قلبَه لبوادر الشر في نفسه! وأيّ ضرر يَدخُل عليه إن فَقَدَ رِداءَهُ أو خَسِرَ مالَهُ وتحت صدره كنزٌ أبديّ هو قلبُه وموطِنُ إنسانيته! ذلك أنّ الإنسانَ يحيا بحياة قلبه ويموت بموته وأنّ الطّيورَ "لا تَزْرَعُ ولا تَحْصُدُ وليس لها مَخْدَعٌ ولا مَخْزَنٌ واللهُ يُقِيتُها"
للترابِ أن يَنسُجَ للجسد ثوبَ الممات، وللقلبِ أن يَنسُجَ للروح ثوبَ الحياة، ولي أن أَعصِمَ قلبي من الشر الذي يَسلُبُ الناسَ قلوبَهم، حين يردّ ابتساماتهم دموعًا وحسناتهم سيئات! وما أسعد الحجارة إذا استحجَرَتْ قلوبُ الناس، وصار هذا الكونُ أرضًا يَبابًا لا يَصوبها مَطَرُ القلوب
أيها القلبُ الحبيب
لا تستطيع الجبالُ أن تَحُلَّ قُيودَها لتنتقلَ إلى غابة أخرى، وإنكَ الطائرُ الذي يَحمِلني على أجنحة الشوق إلى أحبابي، والعينُ التي أراهم بها وأنا في مكاني! ولا تستطيع الشّمسُ أن تَطلُعَ طَلعتَيْنِ في النهار، وإنكَ لا تزال ضوءًا ساطعًا يَغسِلُ ظُلمةَ أيامي ويسكُبُ في كأس آلامي عصيرَ آمالي في هذا الكون الكئيب!
إنني أيها القلبُ الحبيب – ولي خمسٌ وعشرون سنةً – لا أستطيعُ أن أقولَ لكَ أو للناس غيرَ ما تقولُهُ لي، لأنكَ اللسانُ الذي يتكلَّم مني على لساني، والغيمةُ التي أذرِّفُ منها دمعي، والشمعةُ التي أوقِدُ بها ابتساماتي
وما أكثرَ الناسَ في الشرق الحزين الذين يتكلَّمون بغير ما في قلوبهم، فتنتحر الكلماتُ على شَفَا أصدائها كأنها أزهارٌ ينتزعُها المارّون ثم يرمون بها تحت أرجُلِ الريح العاصفة!
فأنا لا أستطيعُ شيئًا بغير قلبي، لأنني به أعمَلُ ومنه أنطلق
بالقلبِ أذكُرُ ما أنستنيه الهموم، وبالقلبِ أحفَظُ ما تركتُهُ قبل زمن سَحيق، وبالقلبِ أُعانِقَ السيفَ لأنه يُصيِّر الكرهَ حبًّا والكآبةَ فَرَحًا
وإنّ أعظمَ القلوبِ قلبٌ يَصنَعُ من الحجارة حياةً، ومن السيف سلامًا، ومن الشوك وردًا، لأنّ القلبَ الذي يكون كذلك، يتخطّى مَجازَ الموتِ إلى حقيقة الحياة ويبقى خفّاقًا في صدر النسيم
إنّ أحكامَ الناس كثيرةٌ في هذا العالم وعظيمةٌ في ظلمها
ومن أحكامهم أن يَصنَعوا للفتاة قلبًا يُحبّون به ويَكرَهون، وفكرًا يَعمَلون به وينهون، وما أجهَلَ الأمةَ التي ترمي بقلوب أبنائها وتَصنَعُ لهم قلوبًا من حديد
ألا يَعلَمون أنّ الوردَ يخرج من بين الحجارة، وأنّ الأمةَ التي تَحبِسُ قلوبَ أبنائها تكون مثل العُصفور الطائر في قفص
إنني أعطيكَ أيها القلبُ الحبيب كلَّ ما أملِك، وأنتَ تَمنَحُني كلَّ ما أعُوزه من الفكر والترقُّب والنظر! فإذا كانت عينايَ تسيران بضعةَ أمتار تِلقاءَ وجهي، وأذنايَ تلتقطان الكلماتِ من أيادي المشافَهات، فإني بعيونكَ أيها القلبُ الحبيب أقطَعُ أميالاً لأبلُغَ مَواطِنَ الحسّ، وبآذانكَ أسمَعُ صوتَ السماء وأنا على أديم الأرض
وما أحمَقَ هذا العالَمَ الذي لا يرى ولا يَسمَع على كثرة عيونه وآذانه، ولو نظر هذا العالم نظرةً بعين قلبه لجفَّتْ دموعُ الأطفال وسَكَنَتْ مدافعُ الحروب
إن في هذا العالم ناسًا كثيرًا يُمجِّدون السلامَ بأفضل الكلمات والتراكيب ولكنهم يَكتُبونه على ورقٍ من حجر لا على ورق القلوب! فيا عجبًا لأرضٍ يكتب أبناؤها السّلامَ بغصون الزيتون وهم الذين يَقلَعون الزيتون ويشرِّدون الفلاحين ويستلبون الأرْضِين! يُطيِّرون حمامَ السلام وهم الذين يَسجُنون الناس في غير أوطانهم ولا يُطيِّرون قلوبَهم حمامًا في سماء المحبة والحرية!
ألا يَعلَمون أنّ في القلب قوةً أكبرَ من كل جيش وأثبتَ من كل جدار
وأنّ الحدودَ التي تفرِّق بين الأصحاب وتَحُولُ بين الأحباب لا تستطيع أن تُفرِّق بينهم بما في قلوبهم! ذلك أنّ الذين تركوا بيوتَهم وحقولَهم مُرحَّلين عن وطنهم الحبيب ثم استظلّوا بخيمات الشَّتات، لا يزالون محتفظين بمفاتيح بيوتهم لأنّ أبوابَ قلوبهم لا تزال تَستقبلُ الريحَ الآتية من جوف الذكريات البعيدة وإن حَجَزَهم ألفُ جدار!
فما الذي يَجمَعُ بيننا وبين هذه الأرض غير قلوبنا، وما الذي يَجمَعُ الناسَ غير ابتساماتهم الحقيقية المصورَّة على جُدرانِ أفئدتهم! وما الذي يَجمَع بيني وبين هذه الكلمات غير أنني كتبتُ بها شيئًا من قلبي على الورق أبعَثُ به إلى أخي القريب وإلى أخي الغريب في هذا العالم!
فلا تَغرِسوا في قلوبكم شوكًا وقتادًا لئلا تشتعلَ فيه نفوسُكم، ولكن ازرَعُوها أملاً وعطاءً حتى يدلّ عليكم وردُ أرواحكم
فانظروا إلى الحياة وتأمَّلوها تجدوها سخيةً تُعطي بأنهارها وأزهارها وسمائها وأرضها ما يُطعِم الجائع ويُروِّي النائع! ألا تستحقّ الحياة أن نُعطيَها بقلوبنا شيئًا منا ولو كلمةً تُعزّي الحزين وتقوّي الضعيف وتؤلّف بين المتباغضين في هذا العالم