مما لا شك فيه بوجود اختلافات وتفاوتات في وجهات النظر وقراءة الواقع حول مختلف القضايا، ومنها حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة التي تدخل عامها الثاني، والتي امتدت أيضًا إلى جبهات أخرى. لكن ليس مقبولًا، ولا منطقيًا، أن يُنظر إلى هذه الحرب وتداعياتها على كافة الأطراف دون استثناء، سواء في الحاضر أو المستقبل، من زاوية واحدة وبمنظور سلبي متشائم. مع الإشارة إلى أن المنطق هو الطريقة المنهجية والمجردة للتفكير في الحقيقة.
نعم، ليس مقبولًا ولا معقولًا أن يكون التفكير المنطقي تجاه هذه الحرب موجهًا ومركزًا حول زاوية واحدة، في حين يتم تجاهل بقية الزوايا تحت ادعاءات ومسوغات الواقعية. ومن المهم أن نوضح أن الواقع والواقعية مفهومان مختلفان: فالواقع هو ما هو موجود والحالة الملموسة للأشياء، بينما الواقعية هي طريقة لرؤية وتصوير الواقع. وبالتالي، من يتبنى شعار الواقعية يسعى لتصوير الواقع كما يراه أو يفهمه، وليس كما هو في صورته الحقيقية والكاملة التي ينبغي النظر إليها من أكثر من زاوية. وعلى هذا الأساس، ينتج عن أنصار مفهوم الواقعية صورة مجتزأة ومنقوصة للواقع الحقيقي، تُبرز فقط الجانب السلبي والمتشائم الذي يدعو للإحباط والاستسلام.
الحديث عن هذا الأمر يأتي في إطار وجود من يُصر على النظر فقط إلى تداعيات حرب الإبادة الإسرائيلية من زاوية واحدة، وهي مآسي وأزمات أهل غزة. وهذا ليس بالأمر الخاطئ، بل هو جانب مهم للغاية يستحق التركيز، خاصة أن أهل غزة يعيشون ظروفًا قاسية لا يتحملها أي شعب آخر، وقد تخلى عنهم الجميع ويتعرضون لحالة خذلان كبيرة في ظل هذه الحرب. لكن المشكلة تكمن في أن أنصار مفهوم الواقعية يحاولون تصوير الواقع بطريقة سوداوية محبطة، لا تدعو للأمل أو حتى لتسليط الضوء على التداعيات السلبية للحرب على المشهد الإسرائيلي بشكل عام.
ولو توقف هؤلاء عند هذا الحد، لتفهمنا هذا التوجه واعتبرنا دورهم مهمًا في التركيز على زاوية مهمة جدًا ويسدون ثغرة لا تقل أهمية عن الجبهات الأخرى. لكنهم، في الواقع، يشكلون جبهة مناوئة لمن ينظر إلى تداعيات حرب الإبادة من زوايا متعددة، مدّعين أنهم يدغدغون المشاعر ويبالغون في تضخيم التداعيات السلبية على المشهد الإسرائيلي.
في المقابل، يُصر أنصار مفهوم الواقعية على احتكار الحقيقة وفهم الواقع، بل والادعاء بامتلاك النسخة الأصلية من واقع الحال، مع أن الحقيقة الكاملة غالبًا ما تكون غائبة أو مُغيبة، وصورتها المتاحة تكون منقوصة. الوصول إلى الحقيقة الكاملة يُعتبر تحديًا معقدًا، والسعي نحوها قد يكون رحلة مستمرة، وقد لا توجد إجابات نهائية. على سبيل المثال، يزعم البعض احتكار فهم الواقع بمجرد أن يقولوا عن أنفسهم: "أنا إنسان واقعي"، مما يعني تلقائيًا نفي ذلك عن الآخرين. المنطق السليم يقضي بأن يقول: "الواقع الذي أراه من وجهة نظري، أو وفقًا لاجتهادي الذي يحتمل الصواب والخطأ". فليس كل من ادّعى فهم الواقع صار واقعيًا، وليس كل من ادّعى الحكمة أصبح حكيمًا، وليس كل من امتلك جزءًا بسيطًا من الحقيقة يتحدث عن هذا الجزء وكأنه قد أحاط علمًا ومعرفة بالحقيقة الكاملة من جميع جوانبها.
نعم، لقد ارتكبت إسرائيل، ولا تزال، جرائم حرب ضد الإنسانية في قطاع غزة، وأحدثت دمارًا هائلًا وعلى نطاق غير مسبوق منذ عام 1948. وفي المقابل، ازدادت التداعيات السلبية الخارجية والداخلية لهذه الحرب الأطول في تاريخ إسرائيل، وألقت بظلالها على المجتمع الإسرائيلي من مختلف الجوانب. خاصة أن هذه الحرب وتداعياتها وضعت المجتمع الإسرائيلي في حالة من التشاؤم والخوف من المستقبل، مما يعكس القلق الوجودي في هذه الدولة. وهذا ما تتحدث عنه الدراسات والتقديرات الإسرائيلية التي يمكن الاستناد إليها لفهم جزء من الواقع الحقيقي لهذه الحرب.