بعد أن هُجّر المسلمون من بيوتهم وديارهم وصودرت أملاكهم وأراضيهم، بلغت أسماعهم قافلة قريش وهي في طريقها إلى مكّة، فانطلقوا بنيّة استرداد بعض ما سلبته منهم قريش، لا سيّما بعدما أذاقوهم سموم الظلم والعذاب والاضطهاد. حين علم أبو سفيان بالخطر المحدق، وكان آنذاك على رأس القافلة، أرسل إلى قومه يُبلغهم الخبر، فجاءت قريش تحمل عنجهيّتها وتتسلّح بكبريائها وهي تجهل حجم المواجهة. خرجوا لملاقاة المسلمين، وكانوا آنذاك قلّةً في العدد والعدّة، لكنّهم قاتلوا قتال من فقد كلّ شيء، مستعدّين للموت دفاعًا عن الحقّ وردًّا للظلم الّذي طالهم ولحق بهم، فكانت لهم الغلبة على ضعفهم الظاهر، وصدق الله العظيم حين قال: "وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ".
ثمّ جاءت معركة أُحد لتكون اختبارًا من نوع آخر مختلف. هذه المرّة، سعت قريش للانتقام من الهزيمة الّتي لحقت بها في بدر، فاندفعوا بقوّة لمواجهة المسلمين. ورغم شجاعة المسلمين واستبسالهم في القتال، إلّا أن بعض الأخطاء الاستراتيجيّة في الميدان، مثل ترك الرماة مواقعهم، أدّت إلى خسائر فادحة غير متوقّعة، وخسروا من بينهم قيادات عظيمة، وهبطت عزيمتهم إلى حيث قاربوا من الهزيمة العسكريّة والمعنويّة.
فهل اكتفت قريش بانتقامها هذا وأشبعت الدماء نهمها؟ لم يكن ذلك كافيًا لإطفاء نار الحقد والانتقام الّتي بقيت مستعرة في نفوسهم. استمرّ الغيظ يتأجّج في قلوبهم، ممّا دفعهم للبحث عن وسائل أخرى للقضاء على المسلمين واستئصال جماعتهم. وضمن مساعي الحقد والانتقام، تحالفوا مع قبائل حاقدة أخرى، مثل غطفان وبني قريظة في غزوة الخندق، فجمعوا الجموع وأحاطوا بالمدينة من كلّ جهة، ظانّين أنّ الوقت قد حان لإنهاء الدعوة الإسلاميّة والقضاء على جماعة الحقّ، رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه.
ورغم التآمر الكبير، كانت هذه المعركة بمثابة بداية نهاية ائتلاف الكفر والحقد الّذي جمع بين قريش وحلفائها، حيث صمد معسكر الحقّ بفضل الله، "وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا"، لتكون هذه الغزوة منعطفًا مهمًّا في تاريخ الدعوة، حيث بدأت تتّضح معالم الضعف والهوان في معسكر الكفّار وتراجعت قواهم، فيما ازدادت شوكة المسلمين وثباتهم في وجه التحدّيات.
أدرك المشركون بعد غزوة الخندق أنّ موازين القوى قد تغيّرت بشكل جذري، وأنّ الحروب والمعارك لن تجلب لهم نصرًا ولا طمأنينة، بل ستزيد من قسوة الهزائم وتبدّد أحلامهم في القضاء على الدعوة الإسلاميّة، لذا سعوا لإبرام هدنة مع المسلمين، فكان صلح الحديبية، ظاهره تنازلًا من المسلمين، وعزًّا للكافرين، لكنّه في الحقيقة كان نصرًا سياسيًّا واستراتيجيًّا حقّق فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعظم مكاسب تمكين الدعوة إلى الله، حيث حقن بالصلح الدماء، ليواصل نشر الرسالة، ويعود مع أصحابه بعد عام إلى مكّة فاتحين منتصرين محققين الوعد الإلهي بنصرة الحق وتثبيت أركان الدين.
عندها وعندها فقط، كان هناك سلام حقيقي.
انتهاء الحرب لا يعني بالضرورة تحقيق السلام، تمامًا كما أنّ ركود النار لا يعني إطفاءها. لا يمكن أن يتحقّق سلام ما دام هناك مقهورون ومستضعَفون. سَحقُ شعبٍ وانتهاكُ كرامتِه لا يجلب سلامًا ولا أمانًا ولا طمأنينة، فالسلام يأتي بإعادة الحقوق وترسيخ قيم العدالة قبل أن ترفرف رايات السلام. هذه شروط أساسيّة قبليّة مسبقة. الناجون من الحرب غالبًا ما يحملون في قلوبهم مرارة فقدان الأحبّة وقساوة المشاهد، وإذا ما أضيفت إليهم مشاعر الذلّ والهوان، تبقى نار الانتقام متأجّجة، ويصبح تجدّد نيران الحرب مجرّد مسألة وقت لا أكثر. السلام الحقيقي يعالج جذور الصراع، ويعمل على إعادة البنية الإنسانيّة والاجتماعيّة إلى حالتها الطبيعيّة، بحيث تستعيد المجتمعات قوّتها وكرامتها وضمان استقلاليّتها. استمرار الظلم والتعدّي على الحقوق هو الوقود الّذي يشعل الصراعات الدمويّة، وهو تهديد دائم للسلم وعدو للاستقرار.
والحديث عن السلام وإعادة بناء مجتمع متماسك يتطلّب شجاعة نفسيّة وهمّة عالية، لا تقل عن تلك الّتي يمتلكها الساعون لإشعال نيران الحروب. هناك دائمًا قوى سياسيّة واقتصاديّة تستنفع من استمرار الصراع، وهذا يجعل عملّيّة تحقيق السلام أكثر تعقيدًا. كما أنّ الجراح النفسيّة الّتي تخلّفها الحروب لا تلتئم بسهولة، وهي تعيق المصالحة والتواصل، وتظلّ تلك الجراح تزداد عمقًا مع التفاوت الاجتماعي والاقتصادي الّذي يغذّي مشاعر الغضب والإحباط.
الخيار بين الحرب والسلام هو اختيار حاسم يجب أن يُتّخذ بحكمة، لأنّ الحروب لا تجلب إلّا الدمار والآلام. السعي نحو السلام يتطلّب إرادة قويّة وتفانيًا لبناء مستقبل أفضل، حيث يمكن للجميع أن يعيشوا بكرامة وأمان. بناء السلام مسؤوليّة جماعيّة تتطلّب تضافر الجهود بين الدول والمجتمعات المحلّيّة وحتّى الأفراد، وبدون هذا التكاتف سنجد أنفسنا في دوّامة متجدّدة من الحروب والصراعات.
يقول نيلسون مانديلا حين خرج من زنزانته نحو الحرّية: "بينما كنت أخطو إلى خارج زنزانتي نحو البوّابة الّتي ستقودني إلى الحريّة، أدركتُ أنّي لو لم أترك مرارتي خلفي، فإنّي سأظلّ سجينًا للأبد". السلام الحقيقي يبدأ من الداخل، من قدرتنا على التحرّر من مشاعر الكراهية والرغبة في الانتقام، حتّى نتمكّن من بناء مستقبل أفضل للناس أجمعين.