الأسبوع الماضي تمّ هدم جميع المنازل في حيّنا- الحيّ الذي تقطنه عائلة الغول؛ يقع هذا الحيّ جنوبي بلدة عرعرة النقب. يسكن في هذا الحيّ نحو 150 شخصًا. العقل لا يتصوّر حجم الكارثة التي ألمّت بهذه البيوت وتركتها أثرًا بعد عين. أصبح ساكنو الحيّ بين ليلة وضحاها يفترشون الأرض ويلتحفون السماء. الأمر فظيعٌ بالنسبة لمَن كان يعيش في هذا الحي العامر بأهله.
وأنت تحدّق في هذا الدمار الماحق الذي لم يُبق ولم يذرْ، يقشعرُّ بدنُك ولا تصدّق ما تراه عيناك. حتّى الطيور التي كانت تتّخذ من بعض أسقف هذه المنازل لها موئلًا أضحَت كأصحاب هذه المنازل تفتّش لها عن ركن تأوي إليه. ولعل تلك الطيور والكائنات الحيّة الأخرى تندبُ حظّها وهي تتأمّل عنف الإنسان وتلك السلطات الظالمة التي اقترفت مثل هذا العمل البربريّ.
ثمّة قدر هائل من الحقد والعنصريّة لدى هذا الإنسان تجعله يخبط خبط عشواء ويمحو حيًّا بأكمله ويجعل مصير أهله يكتنفه الغموض. لكن عندما تتأمّل مجريات الأمور ومساراتها على هذه الأرض منذ أزيدَ من سبعين عامًا تُدرك جيّدًا حجم المعاناة التي يرزح تحتها الناس في بلادنا، من جرّاء سياسات الحكومة الجائرة. هذه سابقة خطيرة قلّ أن حدثَ مثلها، وعلى هذا النطاق، إلّا في حالات نادرة على هذه البسيطة. لا يزالُ الإنسان العربيّ يدفع ثمنًا باهظًا لقاء بقائه على أرضه. يحصلُ أحيانًا أن تضرب هزة أرضيّة المكان وتخلّف دمارًا وضحايا، لكنّنا نتحدّث هذه المرّة عن دمار هائل من صنيع الإنسان.
بعض المنازل التي تمّ هدمها يعود تاريخه إلى منتصف الثمانينات. شُيّدت هذه المنازل على أرضنا التي قطنها أجدادنا وآباؤنا منذ كانت هذه البلاد تحت حكم الدولة العثمانية مرورًا بالانتداب البريطاني وبعد حرب 1948. كان أجدادُنا وآباؤنا يفلحون ويزرعونَ في هذه الأرض محاصيل القمح والشعير وغيرها من الحبوب، ناهيك عن الخضار بمختلف أنواعها. كانت زاخرةً بكروم التين والعنب وأشجار الزيتون وغيرها من أشجار الفاكهة. على هذه الأرض عاش أهلُنا ردحًا من الزمن في أوقات الرخاء والشدة. أقاموا على أرضها أفراحهم ومناسباتهم واستقبلوا في منازلهم ضيوفهم. عاشوا كرامًا أعزّاء لم يفرّطوا فيها رغم شظف العيش وقلة الحيلة في بعض الأحيان.
جدّي حسين الغول، المولود مطلع القرن العشرين، كان يعيش في خيمته على هذه الأرض. كان يحرث أرضه على الدواب وبآلات الحراثة التقليديّة التي كانت متوفّرة وقتذاك. كان رجلًا تقيًّا، يفلحُ أرضه ويرعى قطيع أغنامه ومن خيراتها كان يكسب قوت يومه. إلى أن وافاه الأجل في خريف عام 1986. ثمّ خلفه والدي الذي دأب على الاعتناء بأرضه وزراعتها وجني محصولها. كان هو بدوره أيضًا يزرع فيها الخضروات البعليّة في الصيف وكانت تجود عليه هذه الأرض بغلّة وافرة. في خيمته المتواضعة كان والدي يستقبل ضيوفه، وكان ديوانه عامرًا على مدى الأيّام، وكان لا يضنُّ على ضيوفه وعلى كلّ من يرتاد منزله ليلًا أو نهارا، في أوقات الشدة وأوقات الرخاء. بقي والدي مرابطًا في أرضه معتنيًا بها، وكانت هذه الأرض في فصلي الربيع والصيف بمثابة المرعى لقطيع المواشي أو الخيول أو الإبل التي كانوا يحرصون على أن تبقى في محيط المنزل. والدي المولود في عام 1944 توفي في ربيع العام 2020. وها نحن بعد رحيله نسير على خطاه وعلى نهجه، نعيش على هذه الأرض ونعمرها. على مدى عشرات السنين أقمنا منازلنا وكوّنا أسرًا. على هذه الأرض وُلدنا وَوُلد أبناؤنا وأحفادنا.
تقع منازلنا التي هُدمت ودمرت برمّتها في الناحية الجنوبيّة من قرية عرعرة النقب. في الناحية الغربية والشمالية العمل جارٍ على تطوير حيي 10 و-13 وبعض قسائم الأرض في هذين الحيين تقع في نطاق الأرض التي نملكها. حاولنا مرارًا وتكرارًا أن نقنع المعنيين بالأمر بأن يتم توسعة التخطيط بحيث تكون منازلنا ضمن مخطط القرية وكي تكتسب صفة "الشرعيّة"، والحصول على التراخيص للبناء، حتى نتجنّب تلك التهمة الظالمة التي تُلصق بآلاف المنازل في النقب التي تعتبرها منازل غير قانونية. نحن أصلًا نتمنّى الحصول على تراخيص البناء، ولكن بالنسبة للدولة دون ذلك خرط القتاد. لا شك أنّ الصدمة التي تخلّفها مثل هذه الأعمال اللاإنسانية لها تأثير كبير في نفوس الصغار والكبار والقريب والبعيد. رغم هذا الحدث الخطير وهذه النتيجة المريعة، التي حوّلت حيًّا بأكمله إلى كومة من الركام، ورغم جعل القاطنين فيه يبدأون حياتهم من الصفر، ورغم الخسائر المادّيّة والنفسيّة، إلّا أنّه يحدونا الأمل بغدٍ أفضلَ وأكثر عدلًا وإنصافًا.
-الكاتب هو معلم ومترجم. مواطن متضرر من عرعرة النقب