قرأت رواية "والله راجع" للكاتب المغترب محمد عبد السلام كريّم (الصادرة عن دار أسفار للثقافة والإعلام) من خلال مشاركتي بلقاءات "ندوة اليوم السابع" المقدسيّة. لفتت انتباهي عتباتها النصيّة؛ فجاء العنوان موفّقاً، وحبّذا يكون إرث أهلنا في الشتات لأحفادهم وللأجيال القادمة كما ارتدّ الصدى بصوت حفيده أبي العبد في نهاية الرواية: "والله العظيم راجع".
بالنسبة للغلاف؛ الذي يُعتبر عتَبةً نصّية وعملًا موازيًا لمتن المؤلّف وله وظائفه ودلالاته، توخّيت أن أجد فيه بعضاً من صفد وبلداتنا المهجّرة، وتمعّنت به مليّاً ولم ألمس تلك العلاقة، فجاء مجرّد شعار بارد باهت. وراق لي ما جاء في الإهداء: "إلى أولئك المنتظرين الذين حزموا حقائب الأحلام بانتظار لحظة الحقيقة...".
وكذلك الأمر تسليط الضوء على العادات؛ مثل عادة سكب الرصاص وغيرها، طقوس العرس (حلاقة وحمام العريس، الدبكة، الاحتفالات)، وعلى سكان المنطقة، بكل أطيافهم، وتعدّديتهم الدينية، بما فيه "أولاد الميتة" (اليهود الذين كانوا في فلسطين ما قبل ثلاثينيات القرن الماضي وما قبل احتلال فلسطين التاريخية) (رغم تكرارها عدّة مرات، سهواً، دون لزوم لذلك).
وسمها الكاتب/ الناشر برواية؛ ولم ألمس فيها روح الرواية ونفَسِها، لم ألمس الحبكة الروائية أبداً، بل وجدت الكتاب تقريريّاً، نصّاً سرديّاً مفتوحاً، ركيزته تاريخ صفد أبان النكبة وتهجير أهلها، وما حلّ بفلسطين وشعبها وفقدان الوطن إثر تواطؤ وانتهازيّة الحكّام العرب آنذاك، ووعود قادات الدول العربيّة الشعاراتيّة الرنّانة، ومؤامرة حيكت بحرفيّة لاقتلاع البلاد من أهلها وترحيلهم لتصبح لقمة سائغة للاستعمار الصهيوني الذي حلّ محلّ البريطاني، في كلّ فلسطين.
لمست الاستطراد الإنشائي والإطالة، ممّا أثقل على النص وأجهض السرد الروائي وأعاق مساره. وُفّقَ د. كريّم باستعماله للغة المحكيّة المحلّيّة كلغة حواريّة لإيصال رسالته وكذلك الأمر الاستعانة الأمثال الشعبيّة: "إنّ شكّة دبوس لا تقتل ضبعاً"، "الكحل أحسن من العمى"، "مثل العكوبة بعرق الحجر"، "كلمة ولد بتهزّ البلد"، "ما هو أكل الرجال على قد افعالها" (وليس فعالا!).
وتناول الخذلان العربي وتضليل السكان بأن التحرير قريباً؛ فجاء على لسان أم نايف: "يا أمي هما يومان ونعود. وسيكون العرب قد حرّروا البلاد. هم يعدون بذلك" (ص.151). وكما جاء في الحوار العفوي بين سيّدة عجوز وزوجها؛ "هل أقفلت الأبواب، يا رجل؟
الرجل، بشقّ النفس: نعم أقفلتها. ولكن ما فائدة القفل إذا ما خسرنا البيوت؟
السيدة العجوز: أولا تقول الجيوش العربية أنهم سيحررون كل فلسطين، في أيّام؟
يهز الرجل رأسه محاولاً تصديق ذلك" (ص. 158)، وقال أبو محمد الجشّاوي: "تقيمون لدينا عدة أيام، حتى يدخل جيش الإنقاذ ويحرّر صفد وفلسطين كلّها".
وحثّ الأهالي على النزوح وعدم تقديم المعونة لهم فيقولها العجوز بصريح العبارة: مجرد الخروج من صفد موت، فأنا ميّت، إن مضيت، وميّت إذا ما بقيت. دعوني أموت هنا" (ص. 158)
وكذلك الترهيب والتخويف، حيث كانت قضيّة الشرف الموهومة محورها؛ "دعونا نترك البلد قبل أن يصلوا إلينا... أعراضنا في خطر" (ص.151)، "ما الذي يحلّ بمن لم يرحل؟ يقترب هزاع منه هامساً: يغتصبون نساءه، لا قدر الله" (ص.157).
وأخيراً؛ صدق عبد السلام حين وصل إلى نتيجة مفادها: "لقد بيعت صفد. لقد سُلّمت صفد".
وتبقى الخيانة وجهة نظر (الله يرحمك يا غسان): "أنا أرى أن التقصير خيانة، والتقاعس خيانة، والكذب على الناس خيانة، لو أننا رضينا بالتقسيم لكانت خيانة، ولو اتفقنا مع اليهود لكانت خيانة". (ص.162)
ملاحظات لا بدّ منه؛
لمست الغوغلة المقيتة التي أفقدت الحكاية حميميّتها، وحبّذا لو لجأ الكاتب إلى الرواية الشفويّة الصادقة المُغيّبة، على لسان النازحين ممّن تتشتّتوا وبقوا على قيد الحياة، بدل كتب التاريخ الحديديّة الصماء الجوفاء.
ذكر الكاتب اسم بطله "أبو نايف" مئات المرات عبر صفحات الرواية بتكرار محبط.
أزعجتني الأخطاء المعرفيّة ومنها "المجزريّة"، إن صحّ التعبير، وعلى سبيل المثال، لا الحصر، شركة روتنبرغ وليس روزنبرغ (ص. 107)، "الممرضة بثياب النوم" (ص. 36)، العقيقة في اليوم السابع ولا تجوز قبله (ص. 10).
راق لي حضور صفد الطاغي كما حدث في روايته "حقيبة من غمام" حين قال "خرجنا لا إلى صفد".
نعم؛ "يا عمي، راجع... راجع. أقسم بالله العظيم أني راجع".
*** مشاركتي في ندوة اليوم السابع المقدسيّة يوم الخميس 27.06.2024