لم يعد المكتب السياسي لحركة حماس المنقسم على نفسه يملك هامش مناورة أمام حقائق عديدة فرضتها حرب غزة وارتداداتها في المنطقة، فبين حقيقة الهزيمة العسكرية وانهيار قواتها وعناصرها في أرجاء القطاع، ومحدودية خياراتها على الساحة السياسية الفلسطينية، والعقوبات الاقتصادية التي جففت منابعها المالية، ورحلة التيه للبحث عن وجهة جديدة لقيادتها، وضمور حركات الاحتجاجات من قبل شعوب العالم، وبقاء دعم حلفائها ضمن قواعد الاشتباك دون تأثير في معادلة الصراع، تجد الحركة نفسها أمام واقع يصعب الخروج منه دون كسر محرمات سياسية ورثها الشعب الفلسطيني نتيجة مسيرته النضالية الطويلة، محرمات منطلقة من عنوان ثابت؛ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية خاصة دول الطوق.
الحركة خرجت عبر صفها القيادي الأول لدعوة شعب المملكة الأردنية إلى الخروج والتظاهر والزحف نحو فلسطين، دعوة لم تلاق صداها عند عموم الشعب الأردني المدرك لقصور الفكر السياسي لدى حماس لخصوصية العلاقة وتشابك الملفات والمواقف السياسية بين الشعبين وقيادتهما، فأعداد المتظاهرين في الشارع لا يعول عليه، كون الأردن ليس تلك الدولة الهامشية أو الضعيفة ليتم العبث بها ضمن مخططات إقليمية ترى أنه حان الوقت لتكن عمّان ضمن عواصم التأثير الإيراني.
الحقيقة، هذه ليست المرة الأولى التي تحاول فيها حماس تصدير أزمتها، فقد استمر سعيها طيلة شهور الحرب الدائرة لنقل معركة محورها المتأزم عموما نحو مدن الضفة الغربية، كفرصة لتقوية موقفها التفاوضي من خلال خلق بؤر فوضى جديدة تحت مسمى فتح جبهات جديدة للصراع، وهو ما قرأته منذ اليوم الأول للحرب أوساط سياسية وأمنية أردنية وفلسطينية، حالت دون استغلاله من قبل الكيان الإسرائيلي وحكومته اليمينية المتطرفة اللاهثة وراء ذرائع لتهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية.
وقادت المملكة الأردنية وملكها القوي ومنظومتها الدبلوماسية، الموقف السياسي للحد من السردية الإسرائيلية التي بالغت في تهويل ما جرى يوم السابع من أكتوبر من ناحية، ومن ناحية أخرى قادت حملة لبيان صورة الحرب القبيحة لإرجاع نوع من التوازن في الموقف السياسي لأطراف مؤثر في المجتمع الدولي، فضلا عن عمادة آلية “الإنزال الجوي” لإدخال المساعدات لشمال القطاع.
مجددا، القراءة التحليلية لدعوة حماس التحريضية للشعب الأردني على التظاهر الذي أخذ منحى فوضويا، تأتي ضمن سياق تصدير أزماتها التي تلقي بظلالها ليس فقط على حركة حماس بل على عموم الجماعة الأم الإخوان المسلمين، تحديدا فرعها في الأردن المقبل على استحقاق انتخابي نيابي، وتتردد الجماعة بخوض غماره بسبب شعبيتها المتدنية، وهو ما دفعها إلى الدخول في رهان لتحقيق دعوة حماس التحريضية، والانسياق الاستعراضي المعهود والمغلف بانتهازية سياسية مقيتة يهدف في المقام الأول والأخير إلى تأليب الشارع الأردني لصالح الجماعة لكسب نقاط سياسية تقوي موقفها الانتخابي.
سعي حماس لتفريغ أزمتها تارة باتجاه السلطة الفلسطينية وتارة أخرى باتجاه الأردن، نابع من إنكار واقع الحركة المتلاطمة بين أدائها الرديء في المجالات العسكرية والسياسية والتفاوضية لحرب غزة، وهروبا من نتائج معركة رفح القادمة لا محالة والتي ستنهي ذيول قواتها وعناصرها المتبقية التي تنازع رمق سيطرتها الأخير في أرجاء القطاع.
هذا الواقع يقابله ازدياد الضغط الإيراني على حماس لإظهار قوة الحركة وتماسكها من خلال كسر بعض ثوابت السياسة الفلسطينية؛ إما بافتعال صدام داخلي فلسطيني، أو معارك جانبية مع المحيط العربي في سبيل إيجاد مسارات جديدة لحركة المحور الإيراني وميليشياته، ضمن إستراتيجية إعادة تموضعه مستهدفا حصد المزيد من العواصم العربية وتطويعها تحت سيطرة التأثير الإيراني.