الحديث عن تسليم إدارة وحكم قطاع غزة إلى السلطة الفلسطينية التي خرجت من رحم اتفاقية أوسلو، هذه الاتفاقية التي لها ما لها من تبعات وإسقاطات كارثية على الشعب الفلسطيني وعلى قضيته العادلة، هو الحديث الذي لا يزال يطفو على السطح والأكثر رواجًا في هذه الأيام التي تتعرض فيها غزة لمحاولات التطهير العرقي والإبادة الجماعية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي بحق السكان المدنيين في غزة بدمار واسع النطاق في القطاع المحاصر برًا وبحرًا وجوًا منذ ما يزيد عن 17 عامًا. وبالرغم من معارضة بعض الأصوات الإسرائيلية السياسية والإعلامية التي غدت تنظر إلى الرهان على مخطط تسليم السلطة الفلسطينية الحكم في قطاع غزة كالرهان على حصان خاسر وكفكرة عقيمة لا يرتجى منها الخير، وفق التطلعات الإسرائيلية وما يخدم مصالحها ويضمن تلبية مطالبها، إلا أن السلطة الفلسطينية تبقى هي العنوان الأفضل للخطة الأمريكية لإدارة غزة بعد انتهاء الحرب في حال تمكن الجيش الإسرائيلي من تحقيق أهدافه في الحرب على غزة والقضاء على حكم حماس فيها وتقويض قدراتها العسكرية. فعبارة "تقوية السلطة الفلسطينية وإصلاحها لإدارة غزة بعد الحرب" تكاد لا تغيب عن تصريحات المسؤولين الأميركيين بمختلف المستويات منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
والسلطة الفلسطينية كذلك، هي العنوان الأفضل للأنظمة العربية التي تدور في فلك السياسة الأمريكية والتابعة سياسيًا ووظيفيًا لها ورهينة لتوجهها في المنطقة ولا تستطيع الخروج عن عصا الطاعة الأمريكية. فالموقف السعودي الرسمي يرى أن السلطة الفلسطينية لديها القدرات والقوة لإدارة غزة، قياسًا مع ما قامت به من "عمل رائع" في إدارة الضفة. والموقف الأردني الرسمي يرى أن إرساء الاستقرار في غزة مهمة تستطيع أن تؤديها السلطة الفلسطينية بجدارة، على حد تعبيرهم.
في نهاية المطاف فإنَّ الإصرار الأمريكي على تسليم حكم قطاع غزة للسلطة الفلسطينية نابع من الإدارة الأميركية نفسها، ونابع من رؤية أن تكون السلطة سلطة أمنية إدارية على المقاس الإسرائيلي والأمريكي وعلى مقاس كل من دار في فلكهما، ونابع كذلك من رغبة كبيرة للسلطة الفلسطينية نفسها التي أبدت استعدادها لتولي إدارة غزة بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية على القطاع، كما صرَّح حسين الشيخ، على اعتبار أن "السلطة الفلسطينية هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني"، وعلى اعتبار أن "منظمة التحرير فقط هي من تتحدث باسم الفلسطينيين، وصاحبة البرنامج الوطني وقائدة الفعل السياسي، وأي محاولة لحرف الأنظار عن هذا الأمر لا تصب إلا في مصلحة أعداء شعبنا"، كما صرح المستشار الديني للرئيس عباس، محمود الهباش في الأسابيع الأولى من الحرب.
وحول تشبث الشيخ والهباش وغيرهم من عناوين السلطة الفلسطينية بعبارة "الممثل الوحيد" نترك المجال للسيد فاروق القدومي من مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية وأمين سرها السابق، ليرد على هذه العبارة وعلى من يرددها كلما ضاقت عليه نفسه ولم يجد بدًّا من ترديدها: "أرادوا استبدال منظمة التحرير الفلسطينية بالسلطة الفلسطينية، ولولا نجاح حركة حماس لما عادوا يؤكدون بضرورة تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية بصفتها الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا الفلسطيني والمرجعية السياسية للسلطة الفلسطينية الناشئة".
إن كان مخطط تسليم إدارة وحكم قطاع غزة إلى السلطة الفلسطينية هو واقع تريد فرضه بالقوة الولايات المتحدة الأمريكية ومن دار في فلكها من أنظمة عربية وأجنبية، وإن كان هذا المخطط يمثل رغبة كبيرة للسلطة الفلسطينية نفسها، فالأسئلة المهمة التي تُطرح هنا: أين دور ومكانة الشعب الفلسطيني وهو صاحب الحق الشرعي في وطنه؟ ولماذا قراره وخياره مُغيب عن سيناريوهات ما بعد الحرب؟ ألا يحق للشعب الفلسطيني أن تُحترم إرادته بتقرير مصيره وباختيار قيادته الوطنية، لا سيّما وأن نتائج استطلاع للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، نُشرت مؤخرًا، تُظهر أن غالبية فلسطينية (64%) تعارض مشاركة السلطة في لقاءات لبحث مستقبل القطاع، وما يقرب من 70% من الفلسطينيين طالبوا بحل السلطة الفلسطينية، كما رأى 90% من الفلسطينيين أن الرئيس عباس يجب أن يستقيل، و7% فقط فضلوا سيطرة السلطة بقيادة الرئيس محمود عباس.
ختامًا، إن الشعب الفلسطيني صاحب خبرات نضالية طويلة ومتراكمة على مدى أكثر من قرن من الزمان، وقد قدم خلالها الكثير من التضحيات، ويستطيع أن يقرر مصيره ويقرر شكل السلطة التي يريدها وطريقة تحقيقها بشكل حر وبدون تدخل خارجي وبدون شروط ولا إملاءات من أي جهات كانت. والسؤال الإضافي والمهم في هذا السياق: هل انتهى أم لا زال، عصر التحكم بالقرار الفلسطيني والهيمنة عليه من قبل الرؤية الأمريكية والإسرائيلية ومن دار في فلكهما من أنظمة تابعة سياسيًا ووظيفيًا للسياسة الأمريكية في المنطقة؟ هذا ما ستبديه لنا الأيام القادمة.