الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأحد 10 / نوفمبر 04:02

جماليات السرد في رواية (عاشقة الأسود )-بقلم :علي فضيل العربي

علي فضيل العربي
نُشر: 24/08/22 22:57

قراءة نقدية : 

جماليات السرد في رواية  (عاشقة الأسود ) 

للروائية ياسمين زقزة 

بقلم : علي فضيل العربي

 صدرت عن دار المثقف سنة 2018 م ، في طبعة أولى و أنيقة . رواية " عاشقة الأسود " لياسمين زقزة ، و هي روائية جزائرية شابة  من مدينة عنابة الساحرة .   تطرقت  فيها الكاتبة إلى بعض الظواهر السلبية السائدة في المجتمع الجزائري المعاصر ، كظاهرة الطلاق و ما ينتج عنه من سلبيات و مشاكل عائلية  ، كالحضانة  و معاناة المرأة المطلّقة من نظرة المجتمع الذكوري  إليها  و تسلّط الذكر( لا الرجل )  على الأنثى ، بحجة القوامة ، و باسم  الأعراف و التقاليد الاجتماعية البائدة . ممّا يفضي ذلك  إلى نشوب صراع  بين الرجل و المرأة . حتى أصبح للمرأة  قضية ، بينما  ديننا الحنيف -  و كلّ الشرائع السماوية -   قد كرّم المرأة الشرقيّة قبل نظيرتها الغربية  بقرون عديدة . و رسم لها سبل الحياة الكريمة ، و حدّد لها حقوقها و واجباتها ، جنبا إلى جنب مع أخيها الرجل ، و بوّأها منزلة كريمة ، فالنساء في الإسلام شقائق الرجال .  قال تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) البقرة :  228

       لكن بعض  الذكور العميان  ، و لا أقصد الرجال ، استأسدوا على المرأة ، و تنمّروا عليها ، و حرموها من حقوقها الشرعية ، و عاملوا المرأة معاملة الأمة ( العبدة ) الضعيفة  والمستضعفة  ، لا تصلح إلا للزواج و الجنس  والأكل و الشرب و الغسيل .           

     وبالعودة إلى رواية " عاشقة الأسود " للأديبة ياسمين زقزة  ، يجدر بنا التذكير أنّ أول ما يجذب القاريء و المتلقي و الناقد إلى تصفّح أي عمل أدبي أو علميّ  ، هو العنوان .  لأنه هو العتبة الرئيسة التي تفضي إلى  الولوج إلى المتن الأدبي أو العلمي . و إذا كانت عنوان الكتاب العلمي يتسم بالمباشرة و الدقة العلمية المجرّدة من أيّ تأويل بلاغيّ ، فإنّ عنوان المتن الأدبي يتضمن دلالات و إيحاءات و تأويلات عدّة . و لهذا يحرص الكتاب و الشعراء على العناية الفائقة بعناوين إبداعاتهم الشعرية و النثريّة . كي تكون معبّرة عن المضمون ، مشوقة  له ، جذابة للقاريء . 

      و إذا ما تأملنا عنوان  رواية الأديبة ياسمين زقزة  ( عاشقة الأسود ) . نجد كيف قابلت  الروائية بين  ثنائية العشق و السواد ، كمن يقابل بين النور و الظلام ، بين الحياة و الموت . فإذا كان العشق في مفهوم المعجم اللغوي يدل على الهيّام و الحب في ذروته و الذوبان في المعشوق و استسلام العقل للقلب و التفاؤل  ، فإنّ السواد يعني الكآبة و الموت و التشاؤم و لحظات التراجيديا .  لكن حين تبلغ المأساة و الأحزان و المعاناة  حدّ النخاع و يفقد المرء طاقة الصبر على مواجهتها ، و تُغلق أمامه سبل النجاة منها ،  و يبلغ اليأس ذروته ، و تنطفيء شموع الأمل ،   حينها لن يجد المرء  أمامه سوى الموت لإراحة الجسد و الروح من الآلام ، و الخلاص من  السوداوية الدنيوية .

        إنّ دلالات العنوان تقودنا إلى الخوض في ثنايا المتن الروائي . فرواية عاشقة الأسود ، هي حكاية جمعت بين السارد نسرين و صديقتها ، بطلة الرواية ، حياة ، و هذه الأخيرة ، أي حياة   امرأة معلّمة  ، مطلّقة اسمها حياة ، تعاني من ورم سرطاني خطير ، و من خوفها على ابنتها الصغيرة أحلام ، من أن يأخذها منها طليقها أحمد ، بعدما سمع أن طليقته حياة على علاقة حب مع مصطفى ، و هي على وشك الزواج منه . أمّا نسرين ، و هي الشخصية الساردة و الثانوية الحاسمة  في الرواية ، فإنّها تعيش مأساة صديقتها حياة ، و ماساتها الشخصية ، بما أنّها هي أيضا تعاني من مرض في القلب ، يحتاج إلى عملية جراحية . و المتأمل لسيرورة الأحداث يستنبط  أن مأساة نسرين أشد و أقسى و أثقل ، لأنها تحمل على عاتقها حملين ؛ مأساة صديقتها حياة ، و مأساتها الشخصية . عكس  البطلة حياة ، التي تعيش مأساتها فقط ، أيّ مرضها و خوفها على فقدان ابنتها لصالح طليقها أحمد . و في خضم تلك الألام  و الضغوط النفسية ، و الصراع مع المرض  تنتهي الرواية بموت حياة ،  و سفر صديقتها  نسرين إلى الخارج لإجراء عملية جراحية على القلب  ، و هي تشعر بأنها ماتت  بموت حياة  .

       و المتتبع لأحداث الرواية ، بأن دور البطولة يجوز أن   ينسحب على شخصيتي الساردة نسرين  و حياة معا . و قد يلتبس على القاريء الأمر ، و يسأل : من بطلة الرواية ؟ هل هي نسرين ، الضمير المتكلّم السارد أم حياة الضمير الغائب ؟ و الجواب ، في نظري ، أنّ بطلة الرواية ، أو الشخصية الرئيسية هي حياة . أمّا نسرين ، فهي الشخصية الثانوية الحاسمة ، الساردة ، الراوية لمأساة  البطلة حياة و مأساتها . أما من زاوية  الرؤية السردية ، أي الصلة بين الراوي أو السارد (  نسرين )    و المروي عنه  (  حياة  ) ، فتبدو نسرين مدركة تماما لمجريات حياة  صديقتها  حياة  . فالفضاء السردي  هيمنت عليه   شخصية نسرين  ، و تحوّل إلى مستوى  التبئير الداخلي  ،  من خلال توظيف تقنية  ( الأنا الشاهد ) كما سمّاه  نورمان فريدمان   . 

        ظهرت نسرين  مشاركة في الأحداث ، مصاحبة و شاهدة على تفاصيل يوميات صديقتها  حياة و انطباعاتها  ، نظرا لقربها منها  و تواصلها معها باستمرار، و محاولة التخفيف عنها . و طفقت تؤدي دور الطبيب النفسي ، رغم  حاجتها ، هي أيضا ، إلى من يخفف عنها من الناحية النفسيّة . فهي ، أيضا ، تعاني من مرض القلب ، و من وطأة الظروف الاجتماعية القاسية  و الفراغ العاطفي ، لعدم رسوّها على رصيف الحب ، الذي تبحث عنه ، و ترغب فيه   .

        بدت لنا أحداث الرواية مشتركة  بين الساردة  ( نسرين  ) و المسرود عنه ( حياة ) ، قاسمهما المشترك هو المرض المستعصي  ( مرض السرطان عند حياة ، و مرض القلب عند نسرين ) ،  و الحب المستحيل و الخوف من الحاضر و المستقبل و القهر الاجتماعي . و كأنّ في متن الرواية روايتان ، لشخصيتين متماثلتين في الألم و المصير .             

         بينما كان من الأفضل ، لو  كانت الساردة ( نسرين ) شخصية محايدة و أصغر من الشخصية الرئيسية  .  و هذا ما يطلق عليه النقاد التبئير الخارجي .  و لم يكن  المعقول أن تتساوى الراوية نسرين  ( الساردة ) و  البطلة حياة   ( المسرود عنه  )  . حتى لا يتيه القاريء في السؤال التالي : أيهما بطلة الرواية ، نسرين ( الأنا الشاهد ) ، أم حياة ؟ أيهما أجدر بالتعاطف ،   نسرين أم حياة  ؟  بالرغم من أن المتلقّي الواعي -  و من خلال الموازنة بينها – سيميل  تعاطفه نحو  حياة ، التي تعيش  مأساة  أعمق و أشدّ إيلاما . لأنها تعاني من المرض المزمن القاتل و من خوفها على فقدان حضانة  ابنتها أحلام إن هي تزوّجت من عشيقها مصطفى   و من مضايقات طليقها ، الذي مازال يحبّها ،  بعدما سمع بقصة حبها لمصطفى و تعلّق هذا الأخير بها ، رغبة في الزواج منها . بينما تبدو معاناة نسرين أقل  حدّة  . لهذا لعبت دور ( الأنا الشاهد ) .

جمالية السرد في العتبات : 

          بلغت عدد العتبات في الرواية ( 11 ) ، إحدى عشر عتبة . تراوحت  بين الإطناب تارة و الإيجاز تارة أخرى ،  و هي بمثابة عناوين فرعية  ذات علاقة متينة  و فعّالة و مباشرة  بالجو العام للرواية ، ولم تكن تلك العتبات بمنأى عن  جوّ الخوف والحزن و الألم و القلق و الرهاب و اليأس و الاستسلام و القهر الاجتماعي . 

  صيغت بأسلوب ممتع ، امتزجت فيه عناصر الخيال الأدبي الكلاسيكي  ( البيان  ) ، كالاستعارة و التشبيه و الكناية ، ممّا أكسب تلك العتبات شاعريّة جذابة .

           من جماليات السرد في هذه الرواية الممتعة ، و التي كشفت لنا عن موهبة حقيقية في عالم السرد . أن الروائية ياسمين زقزة ، صدرت كل جزء من الرواية بعتبة ،  هي بمثابة عنوان للجزء  ، ففي بداية الرواية سأذكر – و بتصرّف من زاوية الاختصار، نظرا لطول العتبة   -  ما جاء  على لسان الروائية " اليأس و الاستسلام وحدهما المسؤولان عن الموت ... الاستسلام  باله طويل ، يظل يراقبك من بعيد كحيوان مفترس ...قد يتمكن منّا اليأس إلى درجة نسيان من نحن ، إلى درجة نسيان أنّنا خلقنا لنبتلى .. خلقنا لنداوي بعضنا ، لا تهربي ... خلقنا لنمضي سويّة " ص 6 . هذه الافتتاحية الشاعرية  ، جعلت  القاريء  يتشوّق إلى معرفة ما توحي به ، كلمات ، الموت و الاستسلام و اليأس و النسيان ، و نوعيّة  علاقتها بالسارد ، نسرين و البطلة حياة . لقد كانت هذه العتبة السردية بمثابة مفتاح للمتلقي  للولوج إلى متن الرواية في جزئها الأول .

          ولنتأمّل  مضمون العتبة الثانية :   ، على سبيل المثال ، التي جاء فيها : " الموت بحدّ ذاته لا يقلقني و لا يخيفني ، قلقي على من أترك خلفي ، أخاف فقط ممّا سيحدث لهم بعد الموت . " ص 25 .  هذه العتبة لها علاقة مباشرة بيوميّات البطلة حياة  القلقة و خوفها على ابنتها أحلام  ، و هي تعبّر عن خلاصة نظرتها  الفلسفية للموت و الحياة  .  فهي تر أنّ تداعيات  الموت على ذوي القربى من الأحياء ، أشدّ إيلاما عليهم من الميّت نفسه . فهي ليست  خائفة من الموت  و قلقة  منه ، لأنّها مؤمنة بأنّه قضاء و قدر على المخلوقات جميعها ، بل هي قلقة و خائفة ، بعد موتها على مصير ابنتها الصغيرة  أحلام  . و هذا ما جعل  حياة ، تستسلم   لشعور مؤلم و قهريّ  ، و قد يتحوّل بمرور الوقت إلى مرض نفسيّ عويص ، و إلى رهاب ( فوبيا ) قاتل  . 

 و من العتبات التي يجدر بنا الإشارة إليها  في  العتبة السابعة ،  ص 120   : " يوم الفراق .. بكاء بصمت . طريق مسدود و صراخ ساكت ، و ألف ألف آه مكبوتة .. يوم اغتيل الوعد و بتنا في تشردّ ، كل أجزائنا تتفكك . الروح في اندثار و احتضار ، يوم النهاية باختصار . ما عاد هذا مكاننا ، و ما عاد هذا كرسينا ، و ما بقي في البحر حقّ لنا . ". و العتبة العاشرة ص ، 180 : " لم أخذلك .. خذلنا الزمن و المكان . خذلنا الحب المتأخر و قلبي المتحجّر ، فؤادي الذي مات قبل أن تأتي ، قبل أن  تحبّني . قلبي المدفون الغريق في بحر الظلمات ، قلبي الأسود المدفون .. الأسود تحت اللحد .. ".

         هاتان العتبتان تضيء للمتلقي زوايا القلق و المأساة و عجز الحب عن ترميم العلاقات الاجتماعية المتصدّعة ، التي تعيشها   شخصيات الرواية ؛ فحياة تعاني من تبعات طلاقها من زوجها أحمد ، برغم الحب الذي جمعهما و تضحياتها  و خوفها على فقدان حضانة  ابنتها .  و عندما اكتشفت مرضها المزمن ، و استشعرت موتها  الوشيك ، استولى عليها رهاب لا مثيل له .و فترت علاقاتها بصديقتها نسرين و انقطعت عن حبيبها مصطفى ، و توتّرت علاقتها بأخيها البكر الذي استولى على ميراث بيت أبيها . و يبدو أن نسرين المريضة بمرض القلب ، و المتردّدة في علاقتها بجلال ؛ شقيق حياة الأصغر ،  سيكون مصيرها كمصير صديقتها حياة ، ستجد نفسها  بلا حب ، و لا أمل في الحياة  ، و ربّما يكون الموت القريب في انتظارها . جاء في العتبة الحادية عشر ، ص 192  : "النهاية تماما كالبداية مدهشة ، تخطفك هكذا على حين غرّة من فوق السحاب و ترمي بك من ذاك العلوّ ، من ذاك الحلم الذي تعيشه بكل تفاصيله . لا تنتظرك حتى تستفيق أو تستوعب ما يجري معك ، مفاجئة ، كل حساباتك كانت خطأ ، وصلت قبلك إلى هناك ، و اغتالت كلّ جميل . النهاية ..الرحيل .. النسيان . بعد العشق و الشوق و الانتظار ، بعد أمل كبير .. فراق ، كسر ظهر ، و حرق قلب ..هذا هو الموت الأكيد .. "

        خلاصة القول ، لم تأت تلك العتبات في الرواية  اعتباطا و فضلى  لملء الحيز الورقي  ، و لم تغرّد خارج الجو العام لرواية " عاشقة الأسود " ، للروائية ياسمين زقزة  أو محايدة ، بل  مقدّمات بانورامية  مشوّقة ،  منحت المعمار الروائي سحرا و عمقا و أضافت له  شاعريّة و رمزية و جمالية سردية ، تكشف عن ملكة لغويّة و فنيّة  و موهبة إبداعية لدى الكاتبة .         

      جماليات السرد في المعمار الروائي :

         أما المعمار الروائي ، فقد كان حظه وافر من جمالية السرد الفنّي في الفضاء الروائي ، و وفق ترتيب زمنيّ تسلسلي . وظفت فيه الروائية تقنية الاسترجاع ، أو ما نسمّيه بعض النقاد السرد الاستذكاري ، و هو عملية استعادة الأحداث الماضية للزمن السردي الراهن ، أي لزمن الكتابة . كقول الساردة  نسرين : " ... و كبرت كل عام مع تقدّم صغيرتها بالسنّ ، أطلقت عليها  " اسم أخلام " ، تمنّت وقت علمت أنّها حامل أن يرزقها الله بنتا .." ص 53 . "

كما وظفت أيضا تقنية الاستباق ، و هو سرد استشرافي ، يقوم على ذكر الحوادث اللاحقة مقدما ، و تخيّل  وقوعها  قبل حدوثها الفعلي . تقول الساردة نسرين  : " ستضيع الطفلة بين تلك و تلك ، ليعيد التاريخ نفسه ، لتعيش أحلام ما عاشته أمّها ، لتقاسي نفس المعاناة ، لتمرّ على نفس الطريق ...ستعيش لبيتم الحقيقي دون حضن ... ستعي المعنى الحقيقي لكل هذه الكلمات : اليتم ، الفقد ، الوحدة .. " ص 87 . و قولها في خاتمة الرواية : " ... لن أزورك ، و لن أحدّثك  فلا تنزعجي ،  لن تسير علاقتي مع أخيك كما تمنّيت ، فرحلتي هناك ستطول جدا ، ربّما لن تنتهي ..." ص 204 . 

و توظيفها هاتين التقنيتين السرديتين ( الاسترجاع و  الاستباق ) ، هدفهما تكسير الزمن و تفكيكه ، و جعله يتأرجح بين الماضي و الحاضر و المستقبل .

        كما  جاءت اللغة في النص منتجة لفضاء دلالي زاخر بالخيال ( البيان )   ،  معبّرا عن فضاء نصيّ  متّشح بألوان السواد الذي يرمز إلى القهر الاجتماعي ، المفضي إلى  القنوط و اليأس و الدأب على الفرار من  واقع الحياة  الحاضرة  . ذلك السواد الذي ولد  مع البطلة حياة منذ نعومة أظفارها ،  و لازمها طوال سنوات حياتها الكئيبة ، من فرط الضغط الرهيب الذي قاسته في وسطها الاجتماعي و في أسرتها بالخصوص .  " ولدت مريضة ، كادت أن تموت ، طلاق والدتها ، ضياعها بين عائلتين ، عائلة أمها و عائلة أبيها ، أخوها المتسلّط الذي يرغب دائما أن تكون تحت قدميه كالخادمة ... " ص 82 . " و بعد نجاحها أراد منعها من دخول الجامعة ، وقتها قرّرت ترك البيت و اختارت الإقامة الجامعية ..." ص 82  . " ظلّت تحارب أخاها من ناحية ، و العائلة من ناحية أخرى ..." ص 82 . لقد وصل بها الشعور بالتهميش و الدونيّة   و الإحساس بالانسحاق و اليأس  إلى درجة أنّها أوصت صديقتها نسرين بأن يكون كفنها أسود  أيضا .  هذا السواد الذي لازمها منذ ميلادها إلى وفاتها ، تحوّل مع مرور الوقت إلى عشق وعقدة دونيّة و مرضيّة ، يرمز إلى الحزن والكآبة و اليأس و الرهاب .           

          و التي بدأتها الروائية  من  لحظة  سقوط حياة ، فجأة ،  على الأرض  وغيابها عن الوعي -  كما تروي والدتها  الخالة زكيّة -  ثم نقلها إلى قاعة الاستعجالات بالمصحّة القريبة من البيت  ، لتلقي الإسعافات ، ثم عودتها إلى البيت  "  و في هذا الجزء يتكشّف للقاريء سبب سقوطها الذي يجهله كل من حولها . ألا وهو خوفها الشديد من أن يننزع ابنتها منها ، و يحرمها  من حضانتها ، بعد أن سمع بعلاقتها بحبّها لمصطفى ، و حبّه هو لها ، و نيّتهما  في الزواج . " رآني صدفة ، أو كان يراقبني ربّما " ص 23 . " متى يتغيّر هذا الوضع " ص 23 .  " يريد أخذها منّي ... كل هذا لأنّه علم بقصة مصطفى " ص 23 . " سنجد حلاّ حياة لا تقلقي ، لا داعي للخوف ، لا أحد سيأخذ ابنتك و أنت على قيد الحياة " ص 23 . " لا أدري هو أدرى بالقانون و ثغراته " ص 23 .  فمن خلال هذه العبارات تتكشّف لنا  الخيوط الأولى لمجتمع ذكوريّ ساديّ ،  مدجّج بالآلام و الصراعات و الخسارات  ، مجتمع نرجسيّ مفرط  تتحكّم فيه إرادة الذكر  ، باسم القوامة المزيّفة  . مجتمع ظالم  و مستبّد ، يحاول بكل الوسائل إلغاء كيان الأنثى ، بنظرة فوقية و متعالية  . مجتمع يحصر المرأة في زاوية ضيّقة  ، هي  زاوية الجنس . لأنّها في نظره كائن ناقص عقليا و أخلاقيا .  و بالمقابل عالم ، يسوده الكثير من  التحدي و الصبر و الأمل و البياض ،  يشدّ على الحياة بالنواجذ و يأبى  اليأس و الاستسلام و الموت " أنا بخير يا أمّي ، غبت عن الوعي فقط ، سأعود للبيت بعد قليل " ص 18  ." كان على حياة أن تكون قويّة من أجل أحلام " ص 24 .   

         و إذا انتقلنا إلى الأجزاء الموالية  من الرواية ، نلاحظ  تكفّل  الكاتبة ياسمين زقزة بوضع أغلب العتبات السردية ، ذات الإيحاءات و الدلالات القوية و العميقة ، بنفسها ، و بلغة مشوّقة ، مستعارة من لغة الشعر ، و أسلوب شعراء الشعر الحرّ .   باستثناء الى عتبته تنهمر سيول الدمع في سبيل من اغتالوا يوما بالنبض ، و جعلوا للزمن طعم اللوعة و الحرمان " ص 104  .  و لم يخل هذا الاقتباس -  بما احتواه من ألفاظ نابضة بالأسى و القلق ،  مثل (  الانتظار ،  الشبح ، يجثم ، الوحدة ، اللهفة ، الشوق ، سيول الدمع ، اغتالوا ، اللوعة و الحرمان ) – لم يخل   من المتعة الفنيّة و الأسلوب السردي  المجازي ، و الذي أضاف للرواية حقنة لتأجيج  الصراع الدرامي فيها  . و هو صراع مع الذات تارة ، و مع الآخر تارة أخرى ، دافعه الرئيسي الشعور بالخوف . هذا الرهاب ( الفوبيا ) الغول  الذي أصبح  القاسم المشترك بين شخصيات الرواية  ؛ فحياة خائفة على ابنتها من طليقها أحمد ، و خائفة عليها و قلقة بعد موتها  و أحمد خائف من زواج طليقته حياة من مصطفى ، و نسرين خائفة من أن يفجعها الموت في صديقتها حياة  ، و متردّدة عن زيارة الدكتور خوفا من مرضها و ما يليه من عملية جراحية ، و مصطفى خائف من فشل حبّه لحياة .  و الأم زكية خائفة على ابنتها من الموت ،  فالكلّ يعيش في جوّ مشحون بالخوف و القلق ، مجرّد من السعادة و الفرح و التفاؤل ، كأرض أصابها اليباب ، و عمّتها اليبوسة ، إلا الطفلة أحلام ، فإنّها غير مدركة لما يدور حولها ، بحكم صغر سنّها . " أما صغيرتها ، فكانت تدندن شيئا بصوتها الملائكي ... غير مبالية ، تنط و شعرها الأشقر الخفيف يتمايل ، تضحك ، تثرثر ، تغنّي .." ص 23/ 24 . 

        و من العبارات السردية البليغة ، و  الدالة على الخوف و القلق اللذين أصابا البطلة حياة ، على سبيل المثال ، لا الحصر . " تلج البيت منزعجة ، تتصبب عرقا ، تحس بالاختناق ، الصداع لا يتركها ، رمت المفاتيح و حقيبة يدها " ص 29 . " كانت كالهارب من وحش مفترس ، تمسك المقود بكلتا يديها ، كل جسدها يرتجف ، تتصبب عرقا باردا ، تتنفس بسرعة ، قلبها يدق بسرعة كمن يسابق الريح ، عيناها غارقتان في الأفق... "  ص 35 . " . " قامت مفزوعة من سريرها ، ذهبت تطمئنّ على ابنتها " ص 54 . و أيضا ما أصاب صديقتها  نسرين من فزع و خوف على حياة  ، فهي تقول عن نفسها : " أتمنّى أن لا أودّع أحدا من جديد ، فالموت أجبرني على توديع الكثيرين... ما عاد هناك متّسع لجرح جديد ، و ما عاد هناك من دمع في محاجري " ص 40 ، و تقول أيضا في موضع آخر : " القلق و الخوف  ، وصل الأمر حدّ الرهاب من الفراق ، الوداع ووجع الفراق ، ما عاد بيدي حيلة ، فالميّت لا يعود للحياة ، قلبي تمزّق .." ص 40 .

           هكذا ، كان الخوف  في رواية " عاشقة الأسود "  هو الهاجس الأكبر الذي احتل منطقتي  الشعور و اللاشعور عند حياة  و عائلتها و نسرين . من بداية النص  حتى نهايته . و كان اللون الأسود هو اللون المستبدّ و المسيطر على نفسيّة حياة  منذ ولادتها .  " أرادت أن يكون الأسود معها إلى النهاية ، منذ ولادتها  و هي في حداد ، الحزن الذي يسكنها منذ نعومة أظفارها ، بعدما أصبح القرار بيدها لم تشتر لونا آخر عدا الأسود ، سيّدته و عاشقته الأولى " ص 198 ، بل وصل بها الأمر إلى ترك وصية لصديقتها نسرين ، تطلب منها  أن يكفنوها بالأسود ، تقول نسرين :  " هذه وصية حياة  ، أنّ أمي من تغسّلها و تكفّنها ... بالأسود " ص 198 . "  وحده الأسود يرويني " ص 199 .   و هو رمز للتشاؤم و اليأس و فقدان الأمل في الحياة ، رمز   لم ينشأ من فراغ ، بل هو وليد بيئة اجتماعية سوداوية و سادية  و نرجسية . طحنت المرأة  طحنا ، و حوّلتها إلى كائن مسلوب الحرية و الإرادة  و الحقوق .  بيئة  ترمي كل سلبياتها على كاهل المرأة . 

                و خلاصة القول ، إنّ رواية " عاشقة الأسود " للروائية  ياسمين زقزة ، إضافة متميّزة للرواية الجزائرية المعاصرة  ، و هي جديرة بالقراءة و النقد . لما احتوته على جماليات سردية .  و هي من بين أجمل الروايات النسوية التي نشرت في العشريّة الأخيرة . لكنّها  لم تأخذ نصيبها من النقد البنّاء في الساحة الأدبية الجزائرية ، نظرا لغياب الحركة النقدية ، أو جريها وراء الأسماء  ( الكبيرة )  المسيطرة على الساحة الأدبية ، بحكم توغّلها في مصادر القرار الثقافي  ، و احتكارها  لبعض المنابر الثقافية و الإعلامية  العمومية و الخاصة . ممّا حوّل العلاقة بين الأدباء الشيوخ و الأدباء الشباب من علاقة لتبادل الأفكار البنّاءة  و الهادفة ، إلى علاقة  كيدية ، متصارعة ،  هدفها التسلّط الثقافي ، و الاستبداد المعرفي ،  من لدن  ( شيوخ ) * الأدب لهدم و إلغاء كلّ من يخالفهم في الرؤى ، أو يهدّد مكانتهم  من (  شباب ) ** الأدب  . 

 بقلم : علي فضيل العربي

سيدي عكاشة / الجزائر 

___________________________________

هامش :  * شيوخ : الجيل القديم   .

           ** شباب : الجيل الجديد . 

 

مقالات متعلقة

.