قراءة نقدية :
جماليات السرد في رواية (عاشقة الأسود )
للروائية ياسمين زقزة
بقلم : علي فضيل العربي
صدرت عن دار المثقف سنة 2018 م ، في طبعة أولى و أنيقة . رواية " عاشقة الأسود " لياسمين زقزة ، و هي روائية جزائرية شابة من مدينة عنابة الساحرة . تطرقت فيها الكاتبة إلى بعض الظواهر السلبية السائدة في المجتمع الجزائري المعاصر ، كظاهرة الطلاق و ما ينتج عنه من سلبيات و مشاكل عائلية ، كالحضانة و معاناة المرأة المطلّقة من نظرة المجتمع الذكوري إليها و تسلّط الذكر( لا الرجل ) على الأنثى ، بحجة القوامة ، و باسم الأعراف و التقاليد الاجتماعية البائدة . ممّا يفضي ذلك إلى نشوب صراع بين الرجل و المرأة . حتى أصبح للمرأة قضية ، بينما ديننا الحنيف - و كلّ الشرائع السماوية - قد كرّم المرأة الشرقيّة قبل نظيرتها الغربية بقرون عديدة . و رسم لها سبل الحياة الكريمة ، و حدّد لها حقوقها و واجباتها ، جنبا إلى جنب مع أخيها الرجل ، و بوّأها منزلة كريمة ، فالنساء في الإسلام شقائق الرجال . قال تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) البقرة : 228
لكن بعض الذكور العميان ، و لا أقصد الرجال ، استأسدوا على المرأة ، و تنمّروا عليها ، و حرموها من حقوقها الشرعية ، و عاملوا المرأة معاملة الأمة ( العبدة ) الضعيفة والمستضعفة ، لا تصلح إلا للزواج و الجنس والأكل و الشرب و الغسيل .
وبالعودة إلى رواية " عاشقة الأسود " للأديبة ياسمين زقزة ، يجدر بنا التذكير أنّ أول ما يجذب القاريء و المتلقي و الناقد إلى تصفّح أي عمل أدبي أو علميّ ، هو العنوان . لأنه هو العتبة الرئيسة التي تفضي إلى الولوج إلى المتن الأدبي أو العلمي . و إذا كانت عنوان الكتاب العلمي يتسم بالمباشرة و الدقة العلمية المجرّدة من أيّ تأويل بلاغيّ ، فإنّ عنوان المتن الأدبي يتضمن دلالات و إيحاءات و تأويلات عدّة . و لهذا يحرص الكتاب و الشعراء على العناية الفائقة بعناوين إبداعاتهم الشعرية و النثريّة . كي تكون معبّرة عن المضمون ، مشوقة له ، جذابة للقاريء .
و إذا ما تأملنا عنوان رواية الأديبة ياسمين زقزة ( عاشقة الأسود ) . نجد كيف قابلت الروائية بين ثنائية العشق و السواد ، كمن يقابل بين النور و الظلام ، بين الحياة و الموت . فإذا كان العشق في مفهوم المعجم اللغوي يدل على الهيّام و الحب في ذروته و الذوبان في المعشوق و استسلام العقل للقلب و التفاؤل ، فإنّ السواد يعني الكآبة و الموت و التشاؤم و لحظات التراجيديا . لكن حين تبلغ المأساة و الأحزان و المعاناة حدّ النخاع و يفقد المرء طاقة الصبر على مواجهتها ، و تُغلق أمامه سبل النجاة منها ، و يبلغ اليأس ذروته ، و تنطفيء شموع الأمل ، حينها لن يجد المرء أمامه سوى الموت لإراحة الجسد و الروح من الآلام ، و الخلاص من السوداوية الدنيوية .
إنّ دلالات العنوان تقودنا إلى الخوض في ثنايا المتن الروائي . فرواية عاشقة الأسود ، هي حكاية جمعت بين السارد نسرين و صديقتها ، بطلة الرواية ، حياة ، و هذه الأخيرة ، أي حياة امرأة معلّمة ، مطلّقة اسمها حياة ، تعاني من ورم سرطاني خطير ، و من خوفها على ابنتها الصغيرة أحلام ، من أن يأخذها منها طليقها أحمد ، بعدما سمع أن طليقته حياة على علاقة حب مع مصطفى ، و هي على وشك الزواج منه . أمّا نسرين ، و هي الشخصية الساردة و الثانوية الحاسمة في الرواية ، فإنّها تعيش مأساة صديقتها حياة ، و ماساتها الشخصية ، بما أنّها هي أيضا تعاني من مرض في القلب ، يحتاج إلى عملية جراحية . و المتأمل لسيرورة الأحداث يستنبط أن مأساة نسرين أشد و أقسى و أثقل ، لأنها تحمل على عاتقها حملين ؛ مأساة صديقتها حياة ، و مأساتها الشخصية . عكس البطلة حياة ، التي تعيش مأساتها فقط ، أيّ مرضها و خوفها على فقدان ابنتها لصالح طليقها أحمد . و في خضم تلك الألام و الضغوط النفسية ، و الصراع مع المرض تنتهي الرواية بموت حياة ، و سفر صديقتها نسرين إلى الخارج لإجراء عملية جراحية على القلب ، و هي تشعر بأنها ماتت بموت حياة .
و المتتبع لأحداث الرواية ، بأن دور البطولة يجوز أن ينسحب على شخصيتي الساردة نسرين و حياة معا . و قد يلتبس على القاريء الأمر ، و يسأل : من بطلة الرواية ؟ هل هي نسرين ، الضمير المتكلّم السارد أم حياة الضمير الغائب ؟ و الجواب ، في نظري ، أنّ بطلة الرواية ، أو الشخصية الرئيسية هي حياة . أمّا نسرين ، فهي الشخصية الثانوية الحاسمة ، الساردة ، الراوية لمأساة البطلة حياة و مأساتها . أما من زاوية الرؤية السردية ، أي الصلة بين الراوي أو السارد ( نسرين ) و المروي عنه ( حياة ) ، فتبدو نسرين مدركة تماما لمجريات حياة صديقتها حياة . فالفضاء السردي هيمنت عليه شخصية نسرين ، و تحوّل إلى مستوى التبئير الداخلي ، من خلال توظيف تقنية ( الأنا الشاهد ) كما سمّاه نورمان فريدمان .
ظهرت نسرين مشاركة في الأحداث ، مصاحبة و شاهدة على تفاصيل يوميات صديقتها حياة و انطباعاتها ، نظرا لقربها منها و تواصلها معها باستمرار، و محاولة التخفيف عنها . و طفقت تؤدي دور الطبيب النفسي ، رغم حاجتها ، هي أيضا ، إلى من يخفف عنها من الناحية النفسيّة . فهي ، أيضا ، تعاني من مرض القلب ، و من وطأة الظروف الاجتماعية القاسية و الفراغ العاطفي ، لعدم رسوّها على رصيف الحب ، الذي تبحث عنه ، و ترغب فيه .
بدت لنا أحداث الرواية مشتركة بين الساردة ( نسرين ) و المسرود عنه ( حياة ) ، قاسمهما المشترك هو المرض المستعصي ( مرض السرطان عند حياة ، و مرض القلب عند نسرين ) ، و الحب المستحيل و الخوف من الحاضر و المستقبل و القهر الاجتماعي . و كأنّ في متن الرواية روايتان ، لشخصيتين متماثلتين في الألم و المصير .
بينما كان من الأفضل ، لو كانت الساردة ( نسرين ) شخصية محايدة و أصغر من الشخصية الرئيسية . و هذا ما يطلق عليه النقاد التبئير الخارجي . و لم يكن المعقول أن تتساوى الراوية نسرين ( الساردة ) و البطلة حياة ( المسرود عنه ) . حتى لا يتيه القاريء في السؤال التالي : أيهما بطلة الرواية ، نسرين ( الأنا الشاهد ) ، أم حياة ؟ أيهما أجدر بالتعاطف ، نسرين أم حياة ؟ بالرغم من أن المتلقّي الواعي - و من خلال الموازنة بينها – سيميل تعاطفه نحو حياة ، التي تعيش مأساة أعمق و أشدّ إيلاما . لأنها تعاني من المرض المزمن القاتل و من خوفها على فقدان حضانة ابنتها أحلام إن هي تزوّجت من عشيقها مصطفى و من مضايقات طليقها ، الذي مازال يحبّها ، بعدما سمع بقصة حبها لمصطفى و تعلّق هذا الأخير بها ، رغبة في الزواج منها . بينما تبدو معاناة نسرين أقل حدّة . لهذا لعبت دور ( الأنا الشاهد ) .
جمالية السرد في العتبات :
بلغت عدد العتبات في الرواية ( 11 ) ، إحدى عشر عتبة . تراوحت بين الإطناب تارة و الإيجاز تارة أخرى ، و هي بمثابة عناوين فرعية ذات علاقة متينة و فعّالة و مباشرة بالجو العام للرواية ، ولم تكن تلك العتبات بمنأى عن جوّ الخوف والحزن و الألم و القلق و الرهاب و اليأس و الاستسلام و القهر الاجتماعي .
صيغت بأسلوب ممتع ، امتزجت فيه عناصر الخيال الأدبي الكلاسيكي ( البيان ) ، كالاستعارة و التشبيه و الكناية ، ممّا أكسب تلك العتبات شاعريّة جذابة .
من جماليات السرد في هذه الرواية الممتعة ، و التي كشفت لنا عن موهبة حقيقية في عالم السرد . أن الروائية ياسمين زقزة ، صدرت كل جزء من الرواية بعتبة ، هي بمثابة عنوان للجزء ، ففي بداية الرواية سأذكر – و بتصرّف من زاوية الاختصار، نظرا لطول العتبة - ما جاء على لسان الروائية " اليأس و الاستسلام وحدهما المسؤولان عن الموت ... الاستسلام باله طويل ، يظل يراقبك من بعيد كحيوان مفترس ...قد يتمكن منّا اليأس إلى درجة نسيان من نحن ، إلى درجة نسيان أنّنا خلقنا لنبتلى .. خلقنا لنداوي بعضنا ، لا تهربي ... خلقنا لنمضي سويّة " ص 6 . هذه الافتتاحية الشاعرية ، جعلت القاريء يتشوّق إلى معرفة ما توحي به ، كلمات ، الموت و الاستسلام و اليأس و النسيان ، و نوعيّة علاقتها بالسارد ، نسرين و البطلة حياة . لقد كانت هذه العتبة السردية بمثابة مفتاح للمتلقي للولوج إلى متن الرواية في جزئها الأول .
ولنتأمّل مضمون العتبة الثانية : ، على سبيل المثال ، التي جاء فيها : " الموت بحدّ ذاته لا يقلقني و لا يخيفني ، قلقي على من أترك خلفي ، أخاف فقط ممّا سيحدث لهم بعد الموت . " ص 25 . هذه العتبة لها علاقة مباشرة بيوميّات البطلة حياة القلقة و خوفها على ابنتها أحلام ، و هي تعبّر عن خلاصة نظرتها الفلسفية للموت و الحياة . فهي تر أنّ تداعيات الموت على ذوي القربى من الأحياء ، أشدّ إيلاما عليهم من الميّت نفسه . فهي ليست خائفة من الموت و قلقة منه ، لأنّها مؤمنة بأنّه قضاء و قدر على المخلوقات جميعها ، بل هي قلقة و خائفة ، بعد موتها على مصير ابنتها الصغيرة أحلام . و هذا ما جعل حياة ، تستسلم لشعور مؤلم و قهريّ ، و قد يتحوّل بمرور الوقت إلى مرض نفسيّ عويص ، و إلى رهاب ( فوبيا ) قاتل .
و من العتبات التي يجدر بنا الإشارة إليها في العتبة السابعة ، ص 120 : " يوم الفراق .. بكاء بصمت . طريق مسدود و صراخ ساكت ، و ألف ألف آه مكبوتة .. يوم اغتيل الوعد و بتنا في تشردّ ، كل أجزائنا تتفكك . الروح في اندثار و احتضار ، يوم النهاية باختصار . ما عاد هذا مكاننا ، و ما عاد هذا كرسينا ، و ما بقي في البحر حقّ لنا . ". و العتبة العاشرة ص ، 180 : " لم أخذلك .. خذلنا الزمن و المكان . خذلنا الحب المتأخر و قلبي المتحجّر ، فؤادي الذي مات قبل أن تأتي ، قبل أن تحبّني . قلبي المدفون الغريق في بحر الظلمات ، قلبي الأسود المدفون .. الأسود تحت اللحد .. ".
هاتان العتبتان تضيء للمتلقي زوايا القلق و المأساة و عجز الحب عن ترميم العلاقات الاجتماعية المتصدّعة ، التي تعيشها شخصيات الرواية ؛ فحياة تعاني من تبعات طلاقها من زوجها أحمد ، برغم الحب الذي جمعهما و تضحياتها و خوفها على فقدان حضانة ابنتها . و عندما اكتشفت مرضها المزمن ، و استشعرت موتها الوشيك ، استولى عليها رهاب لا مثيل له .و فترت علاقاتها بصديقتها نسرين و انقطعت عن حبيبها مصطفى ، و توتّرت علاقتها بأخيها البكر الذي استولى على ميراث بيت أبيها . و يبدو أن نسرين المريضة بمرض القلب ، و المتردّدة في علاقتها بجلال ؛ شقيق حياة الأصغر ، سيكون مصيرها كمصير صديقتها حياة ، ستجد نفسها بلا حب ، و لا أمل في الحياة ، و ربّما يكون الموت القريب في انتظارها . جاء في العتبة الحادية عشر ، ص 192 : "النهاية تماما كالبداية مدهشة ، تخطفك هكذا على حين غرّة من فوق السحاب و ترمي بك من ذاك العلوّ ، من ذاك الحلم الذي تعيشه بكل تفاصيله . لا تنتظرك حتى تستفيق أو تستوعب ما يجري معك ، مفاجئة ، كل حساباتك كانت خطأ ، وصلت قبلك إلى هناك ، و اغتالت كلّ جميل . النهاية ..الرحيل .. النسيان . بعد العشق و الشوق و الانتظار ، بعد أمل كبير .. فراق ، كسر ظهر ، و حرق قلب ..هذا هو الموت الأكيد .. "
خلاصة القول ، لم تأت تلك العتبات في الرواية اعتباطا و فضلى لملء الحيز الورقي ، و لم تغرّد خارج الجو العام لرواية " عاشقة الأسود " ، للروائية ياسمين زقزة أو محايدة ، بل مقدّمات بانورامية مشوّقة ، منحت المعمار الروائي سحرا و عمقا و أضافت له شاعريّة و رمزية و جمالية سردية ، تكشف عن ملكة لغويّة و فنيّة و موهبة إبداعية لدى الكاتبة .
جماليات السرد في المعمار الروائي :
أما المعمار الروائي ، فقد كان حظه وافر من جمالية السرد الفنّي في الفضاء الروائي ، و وفق ترتيب زمنيّ تسلسلي . وظفت فيه الروائية تقنية الاسترجاع ، أو ما نسمّيه بعض النقاد السرد الاستذكاري ، و هو عملية استعادة الأحداث الماضية للزمن السردي الراهن ، أي لزمن الكتابة . كقول الساردة نسرين : " ... و كبرت كل عام مع تقدّم صغيرتها بالسنّ ، أطلقت عليها " اسم أخلام " ، تمنّت وقت علمت أنّها حامل أن يرزقها الله بنتا .." ص 53 . "
كما وظفت أيضا تقنية الاستباق ، و هو سرد استشرافي ، يقوم على ذكر الحوادث اللاحقة مقدما ، و تخيّل وقوعها قبل حدوثها الفعلي . تقول الساردة نسرين : " ستضيع الطفلة بين تلك و تلك ، ليعيد التاريخ نفسه ، لتعيش أحلام ما عاشته أمّها ، لتقاسي نفس المعاناة ، لتمرّ على نفس الطريق ...ستعيش لبيتم الحقيقي دون حضن ... ستعي المعنى الحقيقي لكل هذه الكلمات : اليتم ، الفقد ، الوحدة .. " ص 87 . و قولها في خاتمة الرواية : " ... لن أزورك ، و لن أحدّثك فلا تنزعجي ، لن تسير علاقتي مع أخيك كما تمنّيت ، فرحلتي هناك ستطول جدا ، ربّما لن تنتهي ..." ص 204 .
و توظيفها هاتين التقنيتين السرديتين ( الاسترجاع و الاستباق ) ، هدفهما تكسير الزمن و تفكيكه ، و جعله يتأرجح بين الماضي و الحاضر و المستقبل .
كما جاءت اللغة في النص منتجة لفضاء دلالي زاخر بالخيال ( البيان ) ، معبّرا عن فضاء نصيّ متّشح بألوان السواد الذي يرمز إلى القهر الاجتماعي ، المفضي إلى القنوط و اليأس و الدأب على الفرار من واقع الحياة الحاضرة . ذلك السواد الذي ولد مع البطلة حياة منذ نعومة أظفارها ، و لازمها طوال سنوات حياتها الكئيبة ، من فرط الضغط الرهيب الذي قاسته في وسطها الاجتماعي و في أسرتها بالخصوص . " ولدت مريضة ، كادت أن تموت ، طلاق والدتها ، ضياعها بين عائلتين ، عائلة أمها و عائلة أبيها ، أخوها المتسلّط الذي يرغب دائما أن تكون تحت قدميه كالخادمة ... " ص 82 . " و بعد نجاحها أراد منعها من دخول الجامعة ، وقتها قرّرت ترك البيت و اختارت الإقامة الجامعية ..." ص 82 . " ظلّت تحارب أخاها من ناحية ، و العائلة من ناحية أخرى ..." ص 82 . لقد وصل بها الشعور بالتهميش و الدونيّة و الإحساس بالانسحاق و اليأس إلى درجة أنّها أوصت صديقتها نسرين بأن يكون كفنها أسود أيضا . هذا السواد الذي لازمها منذ ميلادها إلى وفاتها ، تحوّل مع مرور الوقت إلى عشق وعقدة دونيّة و مرضيّة ، يرمز إلى الحزن والكآبة و اليأس و الرهاب .
و التي بدأتها الروائية من لحظة سقوط حياة ، فجأة ، على الأرض وغيابها عن الوعي - كما تروي والدتها الخالة زكيّة - ثم نقلها إلى قاعة الاستعجالات بالمصحّة القريبة من البيت ، لتلقي الإسعافات ، ثم عودتها إلى البيت " و في هذا الجزء يتكشّف للقاريء سبب سقوطها الذي يجهله كل من حولها . ألا وهو خوفها الشديد من أن يننزع ابنتها منها ، و يحرمها من حضانتها ، بعد أن سمع بعلاقتها بحبّها لمصطفى ، و حبّه هو لها ، و نيّتهما في الزواج . " رآني صدفة ، أو كان يراقبني ربّما " ص 23 . " متى يتغيّر هذا الوضع " ص 23 . " يريد أخذها منّي ... كل هذا لأنّه علم بقصة مصطفى " ص 23 . " سنجد حلاّ حياة لا تقلقي ، لا داعي للخوف ، لا أحد سيأخذ ابنتك و أنت على قيد الحياة " ص 23 . " لا أدري هو أدرى بالقانون و ثغراته " ص 23 . فمن خلال هذه العبارات تتكشّف لنا الخيوط الأولى لمجتمع ذكوريّ ساديّ ، مدجّج بالآلام و الصراعات و الخسارات ، مجتمع نرجسيّ مفرط تتحكّم فيه إرادة الذكر ، باسم القوامة المزيّفة . مجتمع ظالم و مستبّد ، يحاول بكل الوسائل إلغاء كيان الأنثى ، بنظرة فوقية و متعالية . مجتمع يحصر المرأة في زاوية ضيّقة ، هي زاوية الجنس . لأنّها في نظره كائن ناقص عقليا و أخلاقيا . و بالمقابل عالم ، يسوده الكثير من التحدي و الصبر و الأمل و البياض ، يشدّ على الحياة بالنواجذ و يأبى اليأس و الاستسلام و الموت " أنا بخير يا أمّي ، غبت عن الوعي فقط ، سأعود للبيت بعد قليل " ص 18 ." كان على حياة أن تكون قويّة من أجل أحلام " ص 24 .
و إذا انتقلنا إلى الأجزاء الموالية من الرواية ، نلاحظ تكفّل الكاتبة ياسمين زقزة بوضع أغلب العتبات السردية ، ذات الإيحاءات و الدلالات القوية و العميقة ، بنفسها ، و بلغة مشوّقة ، مستعارة من لغة الشعر ، و أسلوب شعراء الشعر الحرّ . باستثناء الى عتبته تنهمر سيول الدمع في سبيل من اغتالوا يوما بالنبض ، و جعلوا للزمن طعم اللوعة و الحرمان " ص 104 . و لم يخل هذا الاقتباس - بما احتواه من ألفاظ نابضة بالأسى و القلق ، مثل ( الانتظار ، الشبح ، يجثم ، الوحدة ، اللهفة ، الشوق ، سيول الدمع ، اغتالوا ، اللوعة و الحرمان ) – لم يخل من المتعة الفنيّة و الأسلوب السردي المجازي ، و الذي أضاف للرواية حقنة لتأجيج الصراع الدرامي فيها . و هو صراع مع الذات تارة ، و مع الآخر تارة أخرى ، دافعه الرئيسي الشعور بالخوف . هذا الرهاب ( الفوبيا ) الغول الذي أصبح القاسم المشترك بين شخصيات الرواية ؛ فحياة خائفة على ابنتها من طليقها أحمد ، و خائفة عليها و قلقة بعد موتها و أحمد خائف من زواج طليقته حياة من مصطفى ، و نسرين خائفة من أن يفجعها الموت في صديقتها حياة ، و متردّدة عن زيارة الدكتور خوفا من مرضها و ما يليه من عملية جراحية ، و مصطفى خائف من فشل حبّه لحياة . و الأم زكية خائفة على ابنتها من الموت ، فالكلّ يعيش في جوّ مشحون بالخوف و القلق ، مجرّد من السعادة و الفرح و التفاؤل ، كأرض أصابها اليباب ، و عمّتها اليبوسة ، إلا الطفلة أحلام ، فإنّها غير مدركة لما يدور حولها ، بحكم صغر سنّها . " أما صغيرتها ، فكانت تدندن شيئا بصوتها الملائكي ... غير مبالية ، تنط و شعرها الأشقر الخفيف يتمايل ، تضحك ، تثرثر ، تغنّي .." ص 23/ 24 .
و من العبارات السردية البليغة ، و الدالة على الخوف و القلق اللذين أصابا البطلة حياة ، على سبيل المثال ، لا الحصر . " تلج البيت منزعجة ، تتصبب عرقا ، تحس بالاختناق ، الصداع لا يتركها ، رمت المفاتيح و حقيبة يدها " ص 29 . " كانت كالهارب من وحش مفترس ، تمسك المقود بكلتا يديها ، كل جسدها يرتجف ، تتصبب عرقا باردا ، تتنفس بسرعة ، قلبها يدق بسرعة كمن يسابق الريح ، عيناها غارقتان في الأفق... " ص 35 . " . " قامت مفزوعة من سريرها ، ذهبت تطمئنّ على ابنتها " ص 54 . و أيضا ما أصاب صديقتها نسرين من فزع و خوف على حياة ، فهي تقول عن نفسها : " أتمنّى أن لا أودّع أحدا من جديد ، فالموت أجبرني على توديع الكثيرين... ما عاد هناك متّسع لجرح جديد ، و ما عاد هناك من دمع في محاجري " ص 40 ، و تقول أيضا في موضع آخر : " القلق و الخوف ، وصل الأمر حدّ الرهاب من الفراق ، الوداع ووجع الفراق ، ما عاد بيدي حيلة ، فالميّت لا يعود للحياة ، قلبي تمزّق .." ص 40 .
هكذا ، كان الخوف في رواية " عاشقة الأسود " هو الهاجس الأكبر الذي احتل منطقتي الشعور و اللاشعور عند حياة و عائلتها و نسرين . من بداية النص حتى نهايته . و كان اللون الأسود هو اللون المستبدّ و المسيطر على نفسيّة حياة منذ ولادتها . " أرادت أن يكون الأسود معها إلى النهاية ، منذ ولادتها و هي في حداد ، الحزن الذي يسكنها منذ نعومة أظفارها ، بعدما أصبح القرار بيدها لم تشتر لونا آخر عدا الأسود ، سيّدته و عاشقته الأولى " ص 198 ، بل وصل بها الأمر إلى ترك وصية لصديقتها نسرين ، تطلب منها أن يكفنوها بالأسود ، تقول نسرين : " هذه وصية حياة ، أنّ أمي من تغسّلها و تكفّنها ... بالأسود " ص 198 . " وحده الأسود يرويني " ص 199 . و هو رمز للتشاؤم و اليأس و فقدان الأمل في الحياة ، رمز لم ينشأ من فراغ ، بل هو وليد بيئة اجتماعية سوداوية و سادية و نرجسية . طحنت المرأة طحنا ، و حوّلتها إلى كائن مسلوب الحرية و الإرادة و الحقوق . بيئة ترمي كل سلبياتها على كاهل المرأة .
و خلاصة القول ، إنّ رواية " عاشقة الأسود " للروائية ياسمين زقزة ، إضافة متميّزة للرواية الجزائرية المعاصرة ، و هي جديرة بالقراءة و النقد . لما احتوته على جماليات سردية . و هي من بين أجمل الروايات النسوية التي نشرت في العشريّة الأخيرة . لكنّها لم تأخذ نصيبها من النقد البنّاء في الساحة الأدبية الجزائرية ، نظرا لغياب الحركة النقدية ، أو جريها وراء الأسماء ( الكبيرة ) المسيطرة على الساحة الأدبية ، بحكم توغّلها في مصادر القرار الثقافي ، و احتكارها لبعض المنابر الثقافية و الإعلامية العمومية و الخاصة . ممّا حوّل العلاقة بين الأدباء الشيوخ و الأدباء الشباب من علاقة لتبادل الأفكار البنّاءة و الهادفة ، إلى علاقة كيدية ، متصارعة ، هدفها التسلّط الثقافي ، و الاستبداد المعرفي ، من لدن ( شيوخ ) * الأدب لهدم و إلغاء كلّ من يخالفهم في الرؤى ، أو يهدّد مكانتهم من ( شباب ) ** الأدب .
بقلم : علي فضيل العربي
سيدي عكاشة / الجزائر
___________________________________
هامش : * شيوخ : الجيل القديم .
** شباب : الجيل الجديد .