ذكرنا في الحلقة السابقة أن بيرز البولندي هو ممن يعد أبوالقنبلة النووية التي جلبها من فرنسا الى الكيان، وتشكلت شخصيته ما بين المراوغة والخداع السياسي ولم يكن طهوره بمظهر المعتدل الا غطاء لجرائمه وفكره المتطرف بالحقيقة كما نرى بالجزء الثاني والاخير من شخصيته ومن سلسلة شخصيات صهيونية أسهمت في تأسيس الكيان.
بيرز أبو المستوطنات أيضًا!
وواحدة من المحطات البارزة التي عكست مواقفه هي أنه في العام 1975، حينما استوطنت عصابة مستوطنين في سبسطية قرب نابلس، طالب يومها رابين كرئيس للحكومة بإخلائهم إلا أن بيريس رفض، لا بل قدّم لهم الدعم اللوجستي، وفقط بعد جدالات داخل الحكومة، تم نقلهم إلى أرض مجاورة، في الضفة المحتلة، ليقيموا مستوطنة "ألون موريه".
في العام 1977، فاز بيريس برئاسة حزب "العمل"، ولكن الحزب سقط عن سدة الحكم في انتخابات ذلك العام، لتنتهي بذلك فترة سطوة وشبه انفراد في الحكم دامت 29 عاما متواصلة.
حكومة 1992 ومسار أوسلو
هناك الكثير مما يمكن سرده عن حقبة رئاسة شمعون بيريس لحزب العمل، ولكن عدا مسألة المفاعل النووي في منتصف سنوات الخمسين من القرن العشرين، ولاحقًا دوره في إحداث انعطاف جذري في المبنى الاقتصادي الإسرائيلي في العام 1985، بعد سنوات من التضخم والانهيارات الاقتصادية، فإن الدور السياسي الأبرز لبيريس برز في سنوات التسعين والألفين.
خسر بيريس رئاسة الحزب في مطلع العام 1992، تمهيدا لانتخابات ربيع ذلك العام. وقد خسر منصبه لصالح غريمه ومنافسه الدائم على زعامة الحزب، إسحاق رابين، الذي كان قد ترأس حكومة الحزب في منتصف سنوات السبعين.
في صيف العام 1993، ظهر اسم شمعون بيريس بصفته الشخصية المحورية الأساس في الشروع بمسار أوسلو، بدءا من المفاوضات السرية، قبل أن تظهر للعلن في نهاية آب ذلك العام، بين الحكومة الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية، برئاسة الراحل الخالد ياسر عرفات. ولهذا كان بيريس إلى جانب رابين وعرفات في تقاسم جائزة نوبل للسلام. ولكن لاحقًا، بدأت تظهر تصدعات في داخل حكومة رابين، بشأن شكل التقدم في مسار أوسلو، إذ هناك من رأى أن رابين اتخذ خطوات أكثر إلى الأمام مما هو مطلوب إسرائيليا.
في خريف العام 1995، وبعد أيام ليست كثيرة من اغتيال رابين، بدأت تظهر ما تسمى "نظرية المؤامرة" في قضية الاغتيال؛ وفي محورها أن أجهزة أمنية عليا فتحت الأبواب أمام عملية الاغتيال، ولاحقا علِق اسم بيريس بالمؤامرة. وكان أحد الذين تمسكوا بهذه "النظرية"، من كان في العام 2001 وزيرا للسياحة، المتطرف داعية طرد العرب من وطنهم، الإرهابي رحبعام زئيفي[1]، وتم اغتياله في ذلك العام، على يد خلية فلسطينية، ردًا على اغتيال القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أبوعلي مصطفى. وكان زئيفي، وهو جنرال احتياط، يلوّح بتلك "النظرية"، متهما الأجهزة الإسرائيلية بأنها لم تجر تحقيقات كافية. وكان هدفه تبرئة اليمين المتطرف من المسؤولية عن الاغتيال.
عاد بيريس ليرأس الحكومة منذ لحظة الاغتيال، وحتى انتخابات ربيع العام التالي 1996. إلا أن بيريس قاد حزبه مرّة أخرى إلى خسارة انتخابية، حتى أطلق عليه لقب "الخاسر الدوري"؛ ليعود حزب "الليكود" برئاسة بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة. وفي الأشهر الأولى من العام 1996، قاد بيريس كرئيس حكومة جرائم اغتيال مقاومين فلسطينيين، وقبل أسابيع من انتخابات ذلك العام، شن جيش الاحتلال عدوانا شاملاً على جنوب لبنان، ووقعت خلاله "مجزرة قانا"، التي اقترنت باسم بيريس.
تراجع بيريس إلى الصف الخلفي
بعد خسارة حزب "العمل"، أعلن بيريس أنه لن يرشح نفسه في الانتخابات الداخلية لرئاسة الحزب التي جرت في العام 1997. وفاز في تلك الانتخابات رئيس الأركان الأسبق إيهود باراك، وفي انتخابات مطلع العام 2003 خسر حزب "العمل" مزيدا من قوته، لكن الحزب عاد ودخل إلى الحكومة في العام 2004، وأيضا هنا كان دور ضاغط لبيريس.
وفي خريف العام 2005، قاد أريئيل شارون انشقاقا في حزب "الليكود" الذي كان يرأسه، على خلفية التكتل المتمرد عليه في الكتلة البرلمانية، بسبب خطة إخلاء مستوطنات قطاع غزة ذات الطبيعة الفتنوية بين الفلسطينيين. وما أن أعلن شارون عن تشكيل حزب "كديما"، حتى سارع بيريس للانسحاب من حزب "العمل"، والانضمام إلى مجرم الحرب شارون، وبعد ذلك بشهرين، في الأيام الأولى من العام 2006، سقط شارون في غيبوبة دامت سبع سنوات، وتولى رئاسة الحزب الجديد إيهود أولمرت، وفاز في انتخابات ذلك العام، وشكّل الحكومة التي استمر بيريس فيها يتولى حقيبة "التعاون الإقليمي"، إضافة إلى حقيبة أخرى، كان قد ابتدعها في حكومة أريئيل شارون الثانية، وهي تحت مسمى "تطوير الجليل النقب"، وبهدف تهويد المنطقتين، وفق مخططات قادها بيريس، وفي صلبها وجوهرها مخططات عنصرية تفضيلية لليهود على العرب.
بيريس يكشف أوراقه (أبو الكولسات والتكتلات)
في كل السنوات التي تلت خسارته لرئاسة حزب "العمل"، كان بيريس ندّا لكل رؤساء الحزب المتعاقبين، تارة سرا، وتارة علنًا، عدا عن أن نهجه في رئاسة الحزب، خلق معسكرات وتكتلات متناحرة، أبرزها معسكر خصمه إسحاق رابين.
الوجه الحقيقي: بيرس المتشدد المناهض للسلام.
أهمية التركيز على هذا الرجل وإعطائه مساحة واسعة لم تأتِ فقط من جلبه القنبلة النووية التي رسخت وجود واستمرار الكيان، وإنما أيضًا من شخصيته المراوغة والمقاتلة والمخادعة سياسيًا وفي المفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية حيث أن حقيقة مواقف بيريس من العملية التفاوضية مع الجانب الفلسطيني تكشفت في محطتين بارزتين: الأولى إبان مفاوضات "كامب ديفيد"، بين باراك والرئيس عرفات، والرئيس الأميركي بيل كلينتون، إذ تسرّبت أنباء عن اعتراض بيريس على ما كان يرِد من معلومات حول "استعداد" باراك للانسحاب من أكثر من 95% من مساحة الضفة. ولكن بيريس جاهر بهذا الموقف، مرة ثانية، حينما ظهرت تلك النسبة أو أكثر منها، إبان اللقاءات بين رئيس الوزراء إيهود أولمرت، والرئيس الفلسطيني محمود عباس، وقال حينها في مقابلة إذاعية، إنه لن يقبل بالانسحاب بأكثر من 80% من مساحة الضفة المحتلة.
لكن معارضة بيريس العلنية للتوجهات المعلنة لدى أولمرت، انقطعت في منتصف العام 2007، حينما فاز، وهو ابن 84 عاما، بالمنصب الذي تاق له في العام 2000 وخسره، منصب "رئيس الدولة"، الذي جلس فيه لمدة سبع سنوات كاملة، بموجب القانون القائم لرئاسة الدولة. وغادر بيريس المنصب وهو ابن 91 عامًا، ولكن بيريس لم يجلس جانبا، بل واصل حراكه حتى قبل أسبوعين من يوم مماته، بإصابته بجلطة دماغية قادت إلى موته.
أعلن بيريس المخادع والمقاتل أنه يدعم مشاريع لتسخيرالتقنية الجديدة (تقنية النانو) للصناعات الحربية الإسرائيلية، بينما الأبحاث في العالم غارقة في تسخير هذه التقنية للأمور المدنية!؟ وهذا يعني أن ما بدأ به بيريس- بناء المفاعل النووي في ديمونة، ليُطلق عليه في السنوات الأخيرة "أبو المفاعل النووي"- ختم به سنواته الأخيرة، بجمع تبرعات من العالم، لتمويل مشاريع تسخير "تقنية النانوية" للصناعات الحربية الإسرائيلية!
ظهر بيريس في المسارح العالمية بعباءة "رجل السلام" المخروقة، كمن ضغط في اتجاه الشروع بمفاوضات مباشرة مع منظمة التحرير الفلسطينية، إلا أن بيريس على أرض الواقع لم يضغط للتوجه نحو الحل، في أي حكومة من الحكومات الأربع التي شارك فيها، ابتداء من العام 1999.
ومنذ إعلان موته امتلأت الصحافة الإسرائيلية، ووسائل الإعلام الالكترونية على أنواعها، بتقارير عديدة ومتشعبة، رسمت فسيفساء حياته على مدى سنواته الـ 93، وكان من بينها من وثّق دوره في زرع الاستعمار/الاستيطان ودعمه والدفاع عنه.
(الحلقة 2 من 2 عن بيرز)- سلسلة مقالات حول شخصيات ساهمت في تأسيس الكيان الصهيوني على حلقات، وهذه الحلقة 21 منها