زيادٌ تلميذٌ في الصَّفِّ السّادِسِ, وكانَ تلميذاً كسولاً. بدأَ يتغَيَّبُ كثيراً بدونِ عِلْمِ أَهْلِهِ, وكانَ يلتقي يَومِياً مَعَ أَولادٍ مِثْلَهِ ويقضونَ الْوَقتَ بِشُرْبِ السَّجائِرِ والبيرَة. وذاتَ يومٍ جلسَ زيادٌ في ذلكَ المكانِ الْبعيدِ عَنِ الأنظارِ والْمُتَّفَقِ عليهِ, وبيدِهِ السّيجارَةُ وعلى رأسِهِ القُبَّعَةُ المقلوبَةُ ينتظِرُ باقي الرِّفاقِ. وفجأَةً وصلَ أَحَدُهم لابساً الْقُبَّعَةَ بِالْمَقلوبِ وجَلَسَ، ثمَّ أشعَلَ لَهُ زيادٌ السّيجارَة وناوَلَهُ إِياها. ثُمَّ وَصَلَ الثّاني حامِلاً كيساً بيَدِهِ, والطاقيةُ المقلوبةُ على رأسِهِ. فقالَ لَهُ زيادٌ: لماذا تأَخَّرْتَ! ونحنُ هُنا إِنتظرناكَ ساعَةً كامِلَةً, ننتظرُ زجاجاتِ البيرَة, يا اللا أُقعدْ, وخُذ لكَ سيجارَةً. ثم يفتَحُ الْكيسَ ويُخْرِجُ زجاجاتِ البيرَةِ, وبدأوا بالشُّرْبِ.
وإِذا بالطّالبِ صالِح وهُوَ راجعٌ من الْمدرسةِ إلى الْبيتِ وهُوَ من أولادِ صَفِّهِ, نادَوا عليهِ لكي يجلسَ معهم ويرتاحَ. فَاستجابَ لهُم وذهب وجلسَ معهم. وإِذا بهِم يُقَدِّمونَ لَهُ السّيجارةَ ويقولونَ لَهُ: خُذْ جَرِّب ما أَلَذَّها وَسَتُحِبُّها على طول. ثُمَّ سَقَوْهُ الْبيرَةَ فشعَرَ بمُتْعَةٍ كبيرَةٍ. وشَجَّعوهُ وأَغْرَوْهُ لِيأتيَ كُلَّ يومٍ وينْضَمَّ لَهُم بقولِهِم: لماذا نذهَبُ إِلى الْمدرسةِ ونُتعِبُ أَنفُسَنا بالدُّروسِ والامتحاناتِ؟ ها نَحنُ نقضي وقتَنا هُنا بالتَّمَتُّعِ بدونِ أن نُشْغِلَ أفكارَنا, وكُلُّ واحِدٍ مِنّا يُحضِرُ معَهُ شيئاً من السَّجائِر والْبيرَةِ والْمُسَلَّياتِ. وأنتَ عليكَ أَن تُحضِرَ كُلَّ يومٍ عشَرَةَ شواقِل لِشِراءِ الْحاجاتِ. فَاقتَنعَ صالحٌ بكلامِهِم وانْجَرَفَ إِلَيْهِم. وبدأَ كُلَّ صباحٍ يَحملُ حقيبتَهُ معَ الْعَشْرَةِ شَواقِل وهُوَ يوهِمُ أُمَّهُ بأنّهُ ذاهِبٌ إِلى الْمدرسةِ. وكان يلتقي معهُم كُلَّ يومٍ ويتغَيَّبُ عن الْمدرسةِ بدونِ عِلْمِ أُمِّهِ, والْمعلمةُ تُسَجِّلُ لَهُ غِياباً وهي تَحْسِبُ أَنَّهُ مريضٌ. وبَعدَ أُسبوعٍ منَ الْغِيابِ, تُعطي الْمعلمةُ ورقَةً لأَخيهِ حَسَن وهو في الصَّفِّ الثّامنِ, وطلبتْ مِنهُ أن يوصِلَها لأُمِّهِ.
وكانَ حسنٌ تلميذاً نشيطاً مجتهداً ومُتَفَوِّقاً, وقد حصلَ على علاماتٍ كاملةٍ, مئة من مئة. وصلَ إِلى الْبيتِ وبيدِهِ نَتائِجُ الامتحاناتِ في الْعربي والْحسابِ والتّاريخ كُلُّها مِئَةٌ, ونادى لأُمِّهِ بفرحَةٍ غامِرَةٍ لِتَرى امتحاناتِهِ لتَفْرَحَ معهُ. ثُمَّ قالَ لها: ولكن يا أُمي عندي خَبَرِيَّةٌ سَوْفَ تُزعِجُكِ كثيراً, ويعطيها ورقةَ الْمعلمةِ عن غيابِ أَخيهِ صالح, ويقولُ لها بأَنَّ أَخاهُ تغَيَّبَ لمُدَّةِ أُسبوعٍ عنِ الْمدرسةِ, وتُريدُ الْمعلمةُ أَن تَعْلَمَ ما هُوَ السَّببُ. فَتتفاجَأُ الأُمُّ من هذا الْكلامِ وتقولُ: كُلَّ صباحٍ يأخُذُ حقيبتهُ ويخرجُ من الْبيتِ للذِّهابِ إِلى الْمدرسةِ, فأَيْنَ يَذهَبُ ومع من يسيرُ!؟ ولكِنّي سَوْفَ أَعرِفُ بطَريقتي الْخاصَّةِ. فَتَتَّفِقُ الأُمُّ معَ ابنِها حَسَن لِكَي يَمشي وراءَهُ كُلَّ يومٍ وَقتَ خُروجِهِ من الْبيتِ إِلى الْمدرسةِ بِالْخفيةِ وبدونِ أن يَراهُ. وهكذا في الْيَومِ الثاني عندما خرجَ حسنُ وراءَ أَخيهِ وإِذا بِصالِح يُغَيِّرُ طريقَ الْمدرسَةِ ويذهبُ لِلْقاءِ رِفاقِهِ حتّى وَصَلَ إِليهم وجلسَ معهُم. وبدَأَ بإِشعالِ السّيجارَةِ مِثلَهُم ويشربُ الْبيرَةَ ثم سألوهُ عنِ الْعشَرَةِ شواقِل.أخرَجَها من جيبِهِ وأَعطاهُم إِيّاها وقالَ لهم بأَنَّهُ سَرَقها من جُزدانِ أُمِّهِ. وكانَ أخوهُ حَسَن يرى ويسمَعُ ما يدورُ بينَهُم بدونِ أن يَرَوْهُ. ثُمَّ رجعَ إِلى الْبيتِ لِيُخبِرَ أُمّهُ بِما رأَى وسَمِعَ. فانتظرَتِ الأُمُّ رجوعَ ابنِها صالِح. وعندما وصلَ وأَلقى التّحيَّةَ على أُمِّهِ فاجَأَتْهُ بالسُّؤالِ: أينَ كُنتَ!؟ ومِن أَينَ جِئْتَ! ومعَ مَن كُنتَ تقضي ساعاتِ الدَّوامِ!؟ وتقترِبُ نحوَهُ وتَشُمُّ رائحَةَ الدُّخّانِ والْمشروبِ, فيُجيبُها بأَنَّهُ آتٍ من الْمدرسةِ. فَتُريهُ أُمُّهُ ورقَةَ الْمعلمةِ الّتي أَرسلَتْها معَ أَخيهِ وبأَنَّهُ غابَ أُسبوعاً كاملاً بدونِ معرفةِ السَّببِ. فَانْصَدَمَ صالحٌ مِمّا سَمِعَ ولم يَسْتَطِع الرَّدَّ مُنَكِّساً رَأْسَهُ شاعِراً بالْخجلِ والذَّنْبِ.
ثُمَّ كَشَفَتْ لَهُ أُمُّهُ بأَنَّها عَرَفَتْ كُلَّ شيءٍ قائلةً: كُنتَ معَ أولادٍ فاسدي الأخلاق! معَ السَّكارَى والزُّعرانِ. إِوْعَ تُنكِر ! أَخوكَ حسَن شاهِدٌ على كُلِّ شيءٍ وقد رَآكَ بعَينَيْهِ وأنتَ معهم.والآنَ تأكّدْتُ بأنّكَ أنتَ آلذي كُنتَ تأخُذُ من جزداني كُلَّ يومٍ عشرةَ شَواقِلٍ. كيفَ تتصَرَّفُ هكذا! ولماذا إِنجَرَفْتَ وَراءَهُم!؟ وأَينَ تربيَتي لكَ! هَل هكذا تَرَبَّيْتَ!؟ وماذا رَبِحْتَ منهُم غيرَ الْفسادِ وسوءَ الأَخلاقِ ودَمارَ نفسِكَ وفشلَكَ في الْمدرسَةِ. ويكونُ بعِلمِكَ من هذا الْيومِ سَوْفَ لا تخرُجُ من الْبيتِ لِوَحدِكَ. وستخرجُ معَ أَخيكَ حسن وتَرجِعُ معهُ. وليسَ هذا فقط، وستبقى في الْبيتِ بعدَ الدَّوامِ قصاصاً لكَ لتتعلَّمَ درساً في الأَدَبِ والاستِقامَةِ. وعندَها يطلُبُ صالحٌ من أُمِّهِ السَّماحَ ويعترفُ بخَطَئِهِ ويَعِدُها بأَن لا يرجعَ إِليهم, وبأَنَّهُ سيسلُك السُّلوكَ الصَّحيحَ قائلاً: لقد أَقنعوني وجَرفوني بدونِ أَن أَدري. ولكنّي تعَلّمْتُ درساً مَدى الْحياةِ لكي لا أَقعَ في أَيّةِ تجربَةٍ لِئَلا أَخسَرَ حياتي ومستقبلي. وشُكراً لمعلمتي على اهتمامها بي وشُكراً لكِ يا أُمّي يا أَفضلَ أُمٍّ وأَفضَلَ مدرسةٍ. لقد عَمِلْتِ لمصلحتي وأَنقذتِني منَ الضَّياعِ والْهلاكِ, وقَد صَدَقَ الْمثَلُ الْقائِلُ: أَلْعِشرَةُ الرَّديئَةُ تُفسِدُ الأخلاقَ. ومِنَ الآنَ ستكونُ نصائِحُكِ نوراً لِسبيلي.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com