دُعيتُ الى أمسيةٍ أدبيّةٍ ثقافيةٍ. ورغم أن الحدث غريبٌ عن أهوائي، عوّلت على الذهاب. لعلّه فضول القرويّ بسذاجته ونهمه لاستكشاف هذا الجانب الخفيّ في عالمٍ لم أدُسْ ثراهُ قبلا هو الذي دفعني لأزجّ بأنفي عنوةً وسط محفل من "المثقفين" لا يربطني بهم أيّ رابط.
كان رذاذ المطر يراود أوراق الهيدرا المتسلقة على مدخل القاعة عن نفسها, قد شغفها عطشا, وأنا متردد في ولوج هذا الجمع من الأنيقين الذين "ابتذلوا" (لو صحّ التعبير !) ثيابا تنمّ (أو تكاد) عن جدّية الموقف وهم يمسحون حبيبات الماء عن صلعاتهم تارة, وعن نظاراتهم تارة أخرى وهم يتصافحون ويتعانقون ومن ثمّ يطلقون الفكاهات الباردة كبرود مساءات الناصرة. وكانوا بين فينة وأخرى يرمقونني بنظرات استنكارٍ وكأني بهم يتساءلون: "من عساه يكون هذا المتطفل على أمسيتنا التي سنعطس فيها ويفيض خلالها أدب العرب من أنوفنا وآذاننا حتى ينفجر أبو العلاء المعريّ من غيظه ".
جلست على مقعٍد وبدأت أنصِتُ للخطباء الذين احتلوا المنصّة وجمهور الناس يملأ المكان تارة فتارة.
وبدأت الخطابات تتوالى تباعاً في أزمة الزمكانية في النصّ الأدبيّ بحيث يصور المكان انعكاسا لشخصية الكاتب وفق نظريات روسوم ودوهاميل وهامون ... وإذ ذاك دخلت القاعة امرأتان تخطيتا الستين بنيفٍ لكنّ لمعان شعرهما الأسود الحالك في نور مصابيح القاعة استرعى كلّ اهتمامي ومساحيق التجميل بالكاد تخفي ما حفره الدهر من أخاديد وتجاعيد في جبهتيهما وقد لبستا من اللباس والحليّ ما يناسب زفافاً وجلستا خلفي تماما, بينما جلس الزوجان سويّا في الطرف الآخر, وبدأ بينهما حوارٌ طغى على مسامعي فضاع كلّ ما ذكره الخطباء من أعلى المنصّة عن نظريات رولان برنوف بشأن دور المكان في النصوص السردية الكلاسيكية، في فضاء القاعة !.
سألت إحداهنّ: "لماذا تأخرتم ؟". فأجابتها الأخرى:"أنت تعلمين أن الندوات الأدبية لا تفوتني فقررتُ أن يكون الغداء من طبخ البارحة، لكنّ الأبناء عندما عادوا من عملهم رفضوا تناول الأكل "البايت"، فاضطررت لأن أرتجل طبخةً مما أخّر وصولنا، فأجابتها صاحبتها: "أنت المذنبة !، سخني وضعي على المائدة وكلّ حرّ, أكل أم لم يأكل, تلك مشكلته !".
وجرت من خلفي محاورة طويلة تناولت أزمة الطبيخ "البايت" في الواقع العربيّ تعذر علي جرّاءها الإنصات لكلّ ما قيل عن زمكانية النص الادبي العربي, فتركتُ القاعة لأشُدّ رَحلي نحو بيتي القروي البسيط,
وغادرتُ وأنا موقِنٌ ومدركٌ لبريقِ وسحر الأمسيات الأدبية التي تجذب الناس, وقطرات المطر ما زالت تغازل أوراق اللبلاب على مخرج القاعة برونقٍ وشاعريةٍ مُفرطة..