في رسالة بعثتُها للصحف والمواقع، وكانت تتضمن مقالة لأحد الأصدقاء الكتّاب حول كتاب "نسوة في المدينة"، يردّ عليّ محرر أحد المواقع بردّ يتضمن وصف الكتاب بأنه "رواية". وكثيرا ما التبس الأمر على الصحفيين ومحرري المواقع، فيصفون أعمالا كثيرة بأنها رواية، أيّ سحرٍ مختزن في هذا الجنس الأدبي؟ أعتقد أننا في فترةٍ ما قد وقعنا أو سنقع تحت تأثير هذا السحر، شئنا أم أبينا، ليس شرطا بكتابة رواية، وإنما مجرد أن تحوز على برنامجك في قراءتها والكتابة النقدية التي تتناولها، والدفاع عن المشاريع الروائية الفردية والقومية لكتّاب الرواية، فإنّ ذلك من ضمن ذلك التأثير الساحر للرواية والروائيين.
الروائية الموصوفة للكتاب، ليست جديدة على الكتاب نفسه، سألت نفسي هذا السؤال أيضا، هل ما أكتبه في هذا الكتاب هو "رواية"؟ سألت الصديق حسن عبادي السؤال نفسه، نفى أن يكون الكتابُ رواية. إنه هكذا "قصص وسرد". وماذا يعني "قصص وسرد" بالنسبة لي؟ ولماذا ليس هو رواية؟
يغلب على ظني أن الكتاب قد اعتمد على بعض العناصر الروائية، لكن حكاياته منفصلة مفككة، لا تعتمد مبدأ الحبكة المنطقية، وليس لشخصياته أي علاقات سردية وواقعية غير ما ارتبطت بها معي. ولكن: هل للرواية "شكل واحد"؟ هل سعيت إلى تحطيم القالب الروائي القديم لأكتب رواية بطريقة مختلفة؟ ربما، لست على يقين من ذلك. لا يرى النقاد أن للرواية شكلا واحدا ثابتاً، إنما لها أشكال متعددة، بعدد الكتاب والروايات. ولكلّ طريقته وأسلوبه في الكتابة.
وقعت أخيرا على مفهوم "الأدب الشخصي" والتباسه بالرواية، ثمّة جانب شخصي دائماً في كل رواية، تحدث بذلك النقاد والكتاب على حد سواء، ولا أحد يستطيع أن يتجرد من ذاته عند الكتابة، ولولا هذا "الطابع الشخصي" في الكتابة لكانت الكتابةُ هي هي؛ واحدةً عند كل الكتاب الذين يعالجون موضوعا واحدا. جاء في موقع (britannica) هذا التوضيح للعلاقة بين الجانبين الشخصي والروائي: "الرواية الاستبطانية في صيغة المتكلم الأول لها الكثير من القواسم المشتركة مع المذكرات، أو حجم من الذكريات الشخصية"[1]. في كتاب "نسوة في المدينة" شيء من ذلك أيضاً "استبطان في صيغة المتكلم لها الكثير من القواسم المشتركة مع الذكريات الشخصية"، وفي تحقيق لموقع الجزيرة نت يقول الكاتب فاروق يوسف واصفاً كتبه النثرية العشرة بأنها من "الأدب الشخصي" الملتبس بالرواية ويعرّفه بقوله: "جنس قريب من الرواية غير أنه لا ينافسها من جهة تعدد شخصياتها وتنوع محاورها وامتدادها أفقياً"[2].
يمنح الأدب الشخصي كاتبه قدرة أكبر على التحرر أثناء الكتابة، التحرر من القوالب الفنية، التحرر من التقيد الدقيق الفني لعناصر التجنيس المفترض. ليس مضطراً إلى أن يدقق كثيرا إن أصاب أو أخطأ، قارب أم ابتعد، فالتعبير عن الذات يأتي أولا وأخيرا ولا شيء يحل في مرتبة بين الأول والآخر. بهذه الحرية الفنية يُكتب "الأدب الشخصي" على أيّ حال. قد يدخل فيه الشعر، والخواطر، والمقالات، والتحليل الفلسفي والنفسي، قد يدخل فيه الإيمان والإلحاد، كل ذلك منطلقا من بؤرة الذات، ولا يطلب من الآخرين أن يصدّقوه أو يوافقه، ولا ينظر إليهم إن عارضوه وسفّهوه. ولا يلتفت فيه إلى عنصر "الإقناع" المطلوب في الرواية. الكاتب يكتب وحسب، ويفرغ كل ما يريد على الورق. فهي فسحة من البوح والاعتراف والتطهر والصراخ والعلاج النفسي والعاطفي.
الأدب الشخصي إذن ليس رواية سيرة ذاتية، وليس مذكرات، وليس رواية أيضا، إنه فيض سردي حرّ، أو أنه "نثر غير روائي" (nonfictional-prose)، لكنه ملتبس ومتلون بالرواية، والسيرة، والمذكرات، والانطباعات الشخصية، وبالمقالة، يجنح نحو الذاتية غالبا، قد يعرّج أحيانا على "الموضوعية"، لكنه ليس معنيّا بها، ولا يسعى إليها. إنه لا يكتب العالم كما يفعل الروائي على ما يدّعي، بل يكتب ذاته كجِرْم صغير في هذا العالم؛ محاولا أن يجد له مكانا فيه عبر ذلك السرد الحرّ الذي يمارسه بشغف.
قد يوصف "الأدب الشخصيّ" بأنه أقلّ جودة من الأعمال الأدبية المجنسة شعراً وروايات؛ على اعتبار انفلاته من القواعد العامة والخاصة للكتابة، ولذلك، ربما، من أجل ذلك لا تحفل الدوائر البحثية والأكاديمية الرصينة والكلاسيكية به، ونادرا ما تناولته الدراسات والأبحاث المحكمة الجادّة، واقتصر التلقي النقدي على القراءات الانطباعية لقراء عاديين أو أصدقاء الكاتب أو التقارير الصحفية ومواقع عرض الكتب على شبكة الإنترنت. ولعلّ الكاتب سيكون محظوظاً جداً لو صادف أن قرئ على نطاق واسع وأثبت حضوراً قرائياً على الرغم من أن هذا الحضور سيظل محصورا في وقت ولن يدوم طويلاً، وسيكون مصيره الإهمال والركون إلى الظلّ حتى لو تمتع بلغة مسبوكة جيداً، وتضمن فكرة ورسالة مهمّتين.
في كتاب "نسوة في المدينة" قدر كبير من الحقيقة والواقع، وقدر من التخيّل السردي الخالص، فتخيلت بعض القصص بالكامل. كما أكملت بالتخيل قصصا أخرى بدأت وانطفأت عند نقطة لا سردية، فغدت بعد ذلك معجونة بالسرد، وكتبت أيضاً قصصا كما وقعت بالفعل دون تهذيب أو تقليم. لذلك أحببت أن يكون تحت تجنيس "قصص وسرد"، ولست معنيّا أن يؤلّف غير مروياته وحكاياته منذ أول نص حتى آخره، هذه القصص يمكن لها أن تشكل حكاية متصلة بذات كاتبها، ولكني أردت تمزيقها إلى قطع سردية قصيرة لأكون حرا في الكتابة.
صديقتي السورية هند زيتوني- وهي روائية وشاعرة- قرأت الكتاب، وكتبت عنه، يأخذها الكتاب إلى الرواية، ترى فيه مجالا للعبة روائية قادمة، وتقترح عليّ أن نلعبها سوية بالكتابة، تتخيل في هذه اللعبة أن هؤلاء النسوة- أو واحدة منهنّ على الأقلّ- اللواتي كتبت عنهن يلاحقنني، ليقتصصن مني جراء ما فعلت من نشر حكاياتهن. لتكمل حكايات الكتاب برواية، تفترض هند سيناريوهات شائقة من أجل ذلك، أحدها ينتهي بقتلي على يد إحدى أولئك النساء. ضحكت من هذا السيناريو المتخيل؛ سيناريو معروف ولا يحمل أي دهشة، عدا أنني لا أحب العنف ولا القتل في الأعمال الروائية، وخاصة القتل، كثيرا ما اعترضت على المخرجين وكتاب سيناريوهات الأفلام والمسلسلات بسبب قتلهم للشخصيات أو إماتتهم، دائما أقول: القتل ليس حلا مناسبا في الحياة إطلاقا، وليس حلاً مناسباً فنيا في الأعمال الأدبية إلا على نطاق محدود ومدروس جيدا، بحيث لا يكون "كثيرا"، ولا "مجانيا" ولا "للخروج من مأزق". أحب أن تتمتع الرواية بمكر وذكاء ومرواغة، لكن عليكم الابتعاد عن القتل. ألا يكفي ما في البلاد من قتل لتلاحقنا الدماء في الروايات وعلى شاشة الفضائيات في المسلسلات والأفلام، يجب أن يكون الكاتب مضطرا لقتل الشخصية اضطرارا لا مفر منه كما فعل غابرئيل غارثيا ماركيز عندما قتل العقيد في رواية "مائة عام من العزلة"، "وبعدما أنهى ماركيز روايته جاء إلى زوجته مرسيديس بوجه مكفهر وعيون مثقلة بالحزن وقال: لقد قتلت العقيد بوينديا ثم صعد إلى غرفته وبكى بنحيب ثم نام"[3]. ربما اقتنعت هند بوجهة نظري فأخذت تفكر بسيناريو آخر محتمل للرواية القادمة.
روائية أخرى تشرع بكتابة رواية، تبدأها بمحادثة "عبر الواتس آب"، تُسمعني الفقرة الأولى من الرواية. مقطع مشجع، تقول لي صاحبة الرواية الجديدة إنها تكتب هذه الرواية متأثرة بكتاب "نسوة في المدينة".
آمل أن يكون الكتاب ملهماً بحق ليس في كتابة رواية تخيليّة وحسب، بل في أن يكتب كل من له قدرة على الكتابة "أدبه الشخصي"؛ ليتخلص من قيوده، لعله يصبح حرا، ولن يكون حرا بالكامل إن توارى خلف أجناس تخيلية كالرواية، تمنحه مساحة من المراوغة في إشهار الحقيقة عارية على أنها حقيقة شخصية تنتمي إلى الواقع بكل ما فيه من أحزان وآلام وتابوهات، بل عليه أن يقول بصريح العبارة: أنا أكتب حكايتي وذاتي. تماماً كما فعلتُ في كتاب "نسوة في المدينة".
باستطاعتي الهروب بشكل منطقي ومبرر، وأن أقلب المعادلة بشكل كامل بالنسبة للكتاب، فأطلق عليه "رواية"، وأحذف المقدمة، ومع قليل من التحرير، سيصبح سردا تخيلياً "روائيّاً" لا يحقّ لأحد أن يقول إنّ له علاقة بحياتي الشخصية بعدئذٍ، فما أسهل هذا الخيار! لكنه لا يجعل الكتابة مؤلمة وصادمة ودافعة لأن تطرح سؤال الذات والتعامل معها وكتابتها بهذه الطريقة التي سعيت إليها بكامل الوعي والإرادة، ولن يحقق مبتغاه ورسالته بشكل بليغ، فالحقيقة تثير القراء أكثر من التخييل وخاصة في المواضيع المحرّمة.
وأخيراً فلتسمحوا لي بقراءة ما جاء في رواية "الصبوات" للكاتب هنري ميلر[4] في وصف عمليّة الكتابة: "يجب أن تكون الكتابة والتأمّل عملين مجردين عن الإرادة، ومثل تيار في محيط عميق الغور، ويجب أن تطفو الكلمة إلى السطح عند أول خاطرة، فالطفل ليس بحاجة لأن يكتب لأنه بريء، فالمرء يكتب لبتخلص من السموم التي جمعها بسبب أسلوب حياته الزائف، إنه يحاول أن يستردّ براءته، ومع ذلك فإنّ كل ما ينجح في عمله (بالكتابة) هو أن يلقح العالم بفيروس من خيبة أمله. لن يضع إنسان كلمة على الورق إذا كان يملك الشجاعة، لأنه يعيش ما يؤمن به". هذا أيضاً ما حاولتُ فعله في هذا الكتاب، إن الكتابة فيه مثلت نوعا من الفيروس من خيبة الأمل التي عشتها، وعبّرت عنها صراحة في مقدمة الكتاب، فلم أعش شيئاً مما كتبت وإن رغبت في ذلك في وقت ما.