لا بدّ من التأكيد أولًا، على أن الاحتلال الإسرائيلي كان يعلم النتيجة مسبقًا بفشل محاولاته التقدم خطوات بتمرير مشاريعه تجاه القدس والمسجد الأقصى المباركين، لإحداث واقع جديد مختلف في الأقصى، عمّا سبقه، وذلك من خلال تغيير طابعه وحقائقه التاريخية والدينية ومن خلال محاولة فرض مخططات ما يسمى التقسيم الزماني والمكاني بين المسلمين واليهود، عبر نقل واقع المسجد الإبراهيمي في خليل الرحمن إلى المسجد الأقصى، وأيضا من خلال تقديم "قرابين الفصح"- الخطوة التي تسبق "بناء الهيكل" المزعوم و"قدوم المسيح المخلص"- كما تعتقد بذلك مجموعة من حاخامات يهود وجماعات استيطانية تنشط في اقتحام المسجد الأقصى تحت حماية مشددة من قوات الاحتلال.
نعم، الاحتلال الإسرائيلي كان يعلم نتيجة فشله مسبقًا، لأنه يدرك جيدًا أن المسجد الأقصى ليس لقمة سائغة له ولمستوطنيه ليفعل به ما يشاء، ولأنه بات مقتنعًا أنه سيتلقى صفعة جديدة من الجماهير الفلسطينية والمرابطين المعتكفين داخل المسجد الأقصى، ولن يسمحوا له ولا لمستوطنيه بالمساس بقدسية المسجد الأقصى وحرمته، لا سيّما في شهر رمضان الفضيل، ولأن الاحتلال الإسرائيلي-أيضا- بات مقتنعًا أن مركزية قضية القدس والمسجد الأقصى المباركين ستعود للصدارة مجددًا، رغم الأحداث الكبيرة في العالم، لما تحمله هذه القضية من بُعد ديني عقائدي وتمسك بالهوية والانتماء والثوابت بأبعادها الإسلامية والعربية والفلسطينية.
لذلك، فإن هواجس الخوف الأمني والسياسي التي طغت على الاحتلال الإسرائيلي من التصعيد في شهر رمضان دفعته لإطلاق تحذيرات من انفجار الأوضاع في كافة المناطق وخاصة في مدينة القدس المحتلة، ودفعته للقيام بتحركات وزيارات وجولات مكوكية في المنطقة والإقليم حتى يحصل على تهدئة مجانية ويتقدم عدة خطوات بتمرير مشاريعه ليفرض واقعًا جديدًا على المسجد الأقصى ويصبح هذا الواقع بعد ذلك وضعًا قائمًا جديدًا (الستاتوس كفو) متقدما بخطواته الاحتلالية عما سبقه، والذي هو عبارة عن مواصلة تغيير "الوضع القائم" بلا توقف منذ احتلال المسجد الأقصى عام 1967، ثم ليدعو من يدعو بعد ذلك إلى ضرورة الالتزام بـ "الوضع القائم" في المسجد الأقصى من أجل العمل على حفظ "الأمن والاستقرار ووقف التدهور".
تاريخيًا، فإن حقيقة مصطلح "الوضع القائم" في المسجد الأقصى تعود لفترة الاحتلال البريطاني وتحديدا عام 1922، حين اتفق المجلس الإسلامي والحكومة البريطانية على أن لليهود النظر إلى حائط البراق دون أي حق لهم فيه، وعندما جرى تغيير بعض الأمور حدثت ثورة البراق عام 1929. وبحلول عام 1930، أصدرت هيئة الأمم قرارها بأن حائط البراق، جزء لا يتجزأ من المسجد الأقصى، وأنه وقف للمسلمين دون غيرهم، ويحق لليهود النظر إليه فقط من مكان محدد. ومع حلول عام 1967 واحتلال القدس، أقرّ الاحتلال الإسرائيلي بالوضع القائم وهو: الوصاية الأردنية على المسجد، وأن تديره الحكومة الأردنية مثلما كان يديره المجلس الإسلامي في عهد الاحتلال البريطاني. ومع اندلاع الانتفاضة عام 2000 ظلت الأوقاف الإسلامية التابعة للأردن، تشرف على دخول أفواج السياح الأجانب إلى المسجد، على فترتين صباحية ومسائية، بشروط أهمها الاحتشام وضمن إجراءات ومسارات محددة. أما في عام 2003، فأخذت سلطات الاحتلال-ومن طرف واحد- تتحكم بحركة السياح الأجانب وتدخلهم من باب المغاربة الذي صادرت مفاتيحه منذ احتلال القدس عام 1967، دون أي تنسيق مع الأوقاف. وأخذ الاحتلال يدخل أفواجًا من المستوطنين بمرافقة أفراد من الشرطة الإسرائيلية، وبعد ذلك تواصل اقتحام المسجد من أعضاء في الكنيست ووزراء وعناصر المخابرات دون حسيب أو رقيب، إلى أن وصلنا لوضع جديد صارت تسمح فيه الشرطة الإسرائيلية، بقرار حكومي، للمستوطنين المقتحمين بأداء الصلوات والشعائر الدينية في باحات المسجد الأقصى لتكون هذه الخطوة ضمن مفهوم "الوضع القائم"!!
إذن، كما رأينا فإن الاحتلال الإسرائيلي منذ احتلاله للقدس والمسجد الأقصى المباركين عام 1967 إلى اليوم، أوجد بالقوة وضعًا جديدًا داخل المسجد يختلف عن ذي قبل، بحيث يبقى مصطلح "الوضع القائم" وفق المفهوم الاحتلالي، ملازمًا لكل تغيير يحدثه في المسجد الأقصى لصالح مخططاته ومشاريعه التهويدية. السؤال؛ هل هذا هو "الوضع القائم" الذي يزعم وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير لبيد، برسائله "المطمئنة" التي صرّح بها أمام الصحافيين الأجانب بوزارة الخارجية، أن "إسرائيل ملتزمة بالوضع الراهن" في المسجد الأقصى ولن يكون هناك تغيير؟! وهل هذا هو "الوضع القائم" في المسجد الأقصى الذي تعرض- بزعم لبيد- إلى محاولات "اختطاف" منذ بداية شهر رمضان من قِبل "جماعات إسلامية متطرفة"؟!
حتى لا نذهب بعيدًا، فهذه "مبادرة جنيف للسلام" اليسارية التي تضم بعض السياسيين الفلسطينيين وبعض السياسيين الإسرائيليين المحسوبين على معسكر "اليسار"، توضح لنا ما هو "الوضع القائم" الذي تقترحه في مقال لها نشر في موقع (واي نت) العبري تحت عنوان: (قلب الصراع: هناك حل للنزاعات في المسجد الأقصى) وتؤيد بكل صراحة فكرة تقسيم المسجد الأقصى، زمانيا-في المرحلة الأولى- بحيث يصبح مخصصا لصلاة اليهود في أوقات معينة!!
ختاما، هذا هو "الوضع القائم" (الستاتوس كفو) وفق مفهوم الاحتلال الإسرائيلي بيمينه ويساره ووسطه، أمّا مفهوم "الوضع القائم" في المسجد الأقصى في سياقه الحقيقي الذي دون العودة إليه، فلن يتحقق الهدوء ولا الأمن والاستقرار، ولن يتوقف التدهور ولن تخمد شرارة المواجهات الساخنة، فهو الوضع التاريخي القائم قبل الاحتلال الإسرائيلي لكامل مدينة القدس عام 1967، وبموجب الوضع التاريخي القائم، فإن الصلاة في المسجد الأقصى تقتصر على المسلمين وحدهم، بينما يمكن لغير المسلمين زيارته كسياح، وتكون المسؤولية فيه حصرًا لدائرة الأوقاف الإسلامية. وبالتالي على كل جهة فلسطينية وعربية وإسلامية، أن تحدّد قصدها من الدعوة إلى العودة والتمسك والالتزام بـ "الوضع القائم" هل هو الواقع الذي فرضه الاحتلال ويواصل تغييره بلا توقف، أم "الوضع القائم" في سياقه الحقيقي؟!
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com