في خطابه الطوباوي الليلة الموجه للمجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل دعا النائب منصور عباس لـ نبذ العنف والتحريض ودعا القيادات(العربية) لحماية الناس وتأمين الأمان ولاتساق الأقوال والأفعال محذرا من ازدواجية الإدانة والتحريض معا ومن خطورة الاقتداء بهم. تبدو كلمة عباس هذه أكثر كمحاولة استباقية لما قد يحدث لاحقا وهو يقلق المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة وليس تعقيبا على ما حصل فحسب، عمليتا بئر السبع الخضيرة المدانتين.
الأغلبية الساحقة جدا من القيادات العربية أدانت واستنكرت بكل اللغات وأحيانا أفرطت في اجترار الاستنكار رغم أن أتباع "داغش" بيننا بضع عشرات فقط من مليون ونصف المليون وأن منفذي العمليات في الخضيرة وبئر السبع أفراد لا يعبرّون عن موقف المجتمع العربي المتمسك بالنضال السياسي المدني فقط وبحق طبعا. وهذا صحيح منذ نكبة 1948 مما دفع إيهود براك للقول إننا الأقلية القومية الأكثر هدوء في العالم وهذا ما تراه المؤسسة الأمنية أيضا.
النائب منصور عباس ينشد مصلحة المجتمع العربي (ولا شك بذلك) ويحمل رسالة السلم والسلام والحوار ولكن من غير المستبعد أبدا أن كلمته هي أيضا رسالة تهدئة بتكليف من أقطاب الإئتلاف( على غرار رسائل وزيارات لحاخامات وغيره) ولا بأس بذلك طالما أن الهدف التحذير من الانزلاق للعنف والمساس بمدنيين يهودا وعربا.
لكن كي تتوازن الصورة وتكتمل الحقيقة لابد من القول إن هناك قيادات إسرائيلية تحرضّ وتصب الزيت على النار وليس فقط بن غفير في انتهاك الحرم القدسي الشريف منهم حتى وزير الخارجية نفسه في زيارة شعبوية لباب العمود محاكاة لأساليب عمل نتنياهو مما يجعل الدعوات للسلام مجرد كلام فارغ.
وبسيرة السلم الأهلي والأمان المفقود فإن هذا الإئتلاف الحاكم المدعوم من الموحدة لم يجد بعد حلا لتفشي السلاح والجريمة وربما نشهد الآن فعلا جادا لمكافحتها بعد عمليتي الخضيرة وبئر السبع وبعدما تحققّت تحذيرات القيادات العربية ذاتها منذ سنوات بأن سلاح الجريمة يطال اليهود أيضا. فهل السلم والسلام هو من حق المواطن إذا كان يهوديا فحسب؟ ما لاي قل أهمية هو الغائب المغيبّ في كلمة النائب عباس: النزيف الفلسطيني الذي يؤثّر على معظم الفلسطينيين أينما كانوا والقدس بكل ما فيها خاصة الحرم القدسي الشريف تهم الشعب الفلسطيني على طرفي الخط الأخضر وقد شهدنا معنى ذلك في أيار الماضي. لذلك وحتى يستقيم المعنى وتعمل البوصلة وتكون المساعي لضمان الأمن والأمان للعرب واليهود مجدية لابد وبالضرورة وضع الإصبع على الجرح..القضية الفلسطينية المغيبّة والقدس المهمشّة والقول بصوت عال إن هناك احتلالا ينبغي أن ينتهي وأن هناك شعبا( نحن جزء منه) يرزح تحته ويستحق تقرير المصير في حدود 1967 بعدما ذاق الأمرين وشتت شمله ولدولة المستقلة في حدود 67 هي أضعف الإيمان. الأب الروحي للحركة الإسلامية ولمنصور عباس بالذات الشيخ الراحل عبد الله نمر درويش شدد على واجب التمسك بالنضال السلمي وبحق (بدءا من نظرية "في بطن الحوت") لكنه لم يبرح يوما البعد الفلسطيني للهوية وللموقف والرؤية في أفعاله وتصريحاته.. فلماذا نأخذ حانبه دون سواه من موروثه السياسي؟
أكثر من ذلك،فالتشخيص السليم الذي يضع القضية الفلسطينية في المركز هو مصلحة إسرائيلية أيضا وهذا ما يفسر دعوة رؤساء سابقين للمؤسسة الأمنية لمعالجة النزيف الفلسطيني لأن إجراءات الأمن والخطابات الفارغة من أجل السلام لن تحققه. في حديث لـ "معاريف" أكد أمس رئيس الشباك الأسبق عامي أيالون "أن الإسرائيليين سيواصلون مشاهدة العنف والإرهاب على أنواعه طالما أن الفلسطينيين كـ شعب لا يرون مستقبلا أفضل" وسبقه بذلك رئيس الموساد الأسبق داني ياتوم في حديث لـ راديو الناس يوم الخميس الفائت وبينهما رئيس الاستخبارات العسكرية سابقا الباحث دكتور عاموس يالدلين الذي قال في مقال لموقع القناة العبرية 12 إنه بعد انتهاء موجة التوتر لا مفر من معالجة القضية الفلسطينية وتسوية الصراع الذي يشكل مستنقعا لمقولات وعمليات إجرامية وتبعهم عدد من المعلقين الإسرائيليين العقلاء آخرهم ران ادليست (معاريف) ممن حذروا من وهم السلام مع البحرين كـ بديل للسلام الحقيقي مع الشعب الفلسطيني. وهذا ما يقوله حتى وزير الخارجية الأمريكي بلينكين(اجتماع النقب).
في كتابه الصادر مطلع العام الحالي يؤكد الجنرال في الاحتياط الباحث وخبير الخرائط الأول في إسرائيل شاؤول أرئيلي أن هناك 12 أسطورة في إسرائيل فيها بذرة صدق مغلفة بطبقات سميكة من الكذب أخطرها أسطورة عدم وجود شريك فلسطيني. لماذا لا ينضم منصور عباس ونواب الموحدة ونواب المشتركة لحملة موجهة للإسرائيليين للتأثير عليهم نحو مفاوضات حقيقية تنهي الصراع باعتبار ان تسويته هي أيضا مصلحة إسرائيلية عليا ؟
هؤلاء جميعا يدركون أن تأجيل الحل أو إدارة الصراع أو خفض ألسن لهبه ليس سوى وهم و"قنبلة موقوتة" ستنفجر في وجه الجميع ومن لا يعي ذلك ليتجول لساعتين في الضفة الغربية ليذوق طعم الاحتلال والاحتفان منبعه ليس رمضان بل الاستعلاء والاستخفاف والإحباط.
فلماذا نتردّد في قول الحقيقة ووضع الإصبع على الجرح لاسيما أن وقف النزيف هو لصالح العرب واليهود معا؟ الكلام السهل والمريح لا يسمن ولا يغني من جوع خاصة أننا لا ترى ولا نسمع حولنا ومن قياداتنا ( وحتى في منتديات التواصل الاجتماعي) من يحرض على العنف والمس بالمدنيين.
تدلل التجارب المرة أن الحديث عن السلام والأمان دون تصوير الواقع كما هو بالزيادة أو النقصان لمجاملة الطرف الآخر أو للتنبه لمسؤوليتنا الذاتية فقط لا يخدم أي قضية ولا يحقق السلام وللنائب منصور عباس أن يأخذ عبرة من عباس آخر، هناك في رام الله: رغم كونه القائد الأكثر اعتدالا في تاريخ الفلسطينيين يرفض إئتلاف بينبت لابيد ساعر وميخائيلي وعباس مجرد فكرة التحدث معه ومع السلطة الفلسطينية...مجرد حديث وهذا لم يرد في خطابك.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com