سألني قارئ كريم محتجًّا، في ندوة في المكتبة العامّة في بلدة مجد الكروم العامرة حول روايتي "نوّار العلت": "لماذا الطّنطورة، ألّا توجد قرى مهجّرة أخرى؟" وكان يشير إلى فاطمة الطّنطوريّة احدى بطلات الرّواية.
شاركت قبل فترة يا عزيزي القارئ في جولة مع أصدقاء لي وزرنا أطلال قرى "عين الزّيتون" و "الصّفصاف" و "كفر عنان" ومررنا قرب أطلال قرية "ناصر الدّين" وكنت أردّد فوق أطلال كلّ قرية ما قاله عملاق الشّعر والفكر أبو العلاء المعرّيّ:
خفّف الوطء ما أظنّ اديم الأرض الّا من هذه الأجساد
لكلّ قرية مهجّرة ملحمة، ولكلّ بلدة باقية رواية صمود الّا أنّ الطّنطورة تستصرخ ضمير العالم الغائب ليل نهار بعدما أعدموا العشرات من أهلها بدّم بارد ودفنوهم في قبر جماعيّ طوله 35 مترًا وعرضه أربعة أمتار وشيّدوا فوق القبر موقفًا لسيّارات المستجمّين على شاطئ الطّنطورة الذّهبيّ ومياهه الزّرقاء الصّافية معتقدين أنّهم أخفوا جريمتهم للأبد.
ما تيسّر لي مشاهدة الفيلم السّينمائيّ "طنطورة" الّذي تشارك فيه مجموعة من ضبّاط وجنود فرقة "الكسندروني"، من الّذين يحمل كلّ واحد منهم على كتفيه تسعين عامًا وربّما أكثر، هؤلاء الّذين احتلّوا الطّنطورة في أيّار 1948 وهم – في الفيلم- يتحدّثون ويبتسمون كأنّهم يتذكّرون الأيّام الجميلة عندما أعدموا بدم بارد العشرات من أهل الطّنطورة ودفنوهم في قبر جماعيّ كما جاء في مقالات نشرتها صحيفة "هآرتس" في شهر كانون الثّاني 2022.
في العام 1998 (في الذّكرى الخمسين للنّكبة) أنجز تيدي كاتس طالب التّاريخ في جامعة حيفا بحثًا لنيل شهادة الماجستير عن مجزرة الطّنطورة بعد أن قابل العشرات من العرب ومن الجنود والضّباط اليهود الّذين شاركوا في المجزرة، ونال كاتس علامة 97 في المائة عن بحثه العميق والجادّ، وهذا الإنجاز يؤهّله للبدء في مسار العمل الأكّاديميّ، الّا أنّ صحافيًّا في جريدة "معريف" اطّلع على البحث وأطلق الرّصاص عليه وعلى صاحبه بل فتح أبواب جهنم عليهما، ومن الغرائب والعجائب في هذه البلاد أنّ عددًا من محاربي فرقة الكسندروني الّذين قابلهم كاتس، وسجّل كلامهم على عدّة أشرطة، وتحدّثوا ببرود عن مشاركتهم في المجزرة، رفعوا قضيّة ضدّه في المحكمة، كما أنّ جامعة حيفا تنكّرت لتيدي كاتس ولم تدافع عن طالبها المتفوّق بل أجبرته على أن يتراجع عن بحثه وأن ينكر حدوث مجزرة في الطّنطورة، وقضت على المستقبل الأكّاديميّ لهذا الطّالب.
اعتقدوا أنّهم أخفوا الجريمة.. ولكن هيهات، فأرواح شهداء الطّنطورة تصرخ مع كلّ موجة من بحرها وتنادي من كلّ ذرّة رمل على شاطئها وتصرّ على أن تروي للعالم ما أخفوه.
كانت الطّنطورة قرية جميلة أبنيتها على الطّراز الحديث ( كما ورد في كتاب صدر في العام 1898)، وكان فيها مقاه تٌعرض فيها مسرحيّات. وفيها محطّة سكّة حديد في خطّ فلسطين- مصر، وتجاورها قرى كفر لام وعين غزال والصّرفند واجزم وجبع والفريديس وزمّارين. وفي ذلك النّهار، من شهر أيّار حينما اجتاح لواء الكسندروني القرية وباشر بالمجزرة الرّهيبة كانت النّساء المرضعات يحتضنّ أطفالهنّ وكانت الحوامل يحمين الأجنّة براحاتهنّ، وكان الطّبيخ ما زال ساخنًا في القدور، وكانت فناجين القهوة مملوءة حول الرّكوات، وكانت كلاب القرية تجوح والقطط تموء والنّوارس ترقص رقصة الانتحار، واليوم بعد سبعين عامًا يتذكّر القتلة ما جرى ويتحدّثون ويبتسمون.
يأتي النّاس صيفًا للاستجمام والسّباحة في شاطئ الطّنطورة الّذي أبى أن يحمل اسم "دور" (وهو اسم كنعانيّ) وهم لا يدرون أنّ سيّارتهم تقف فوق قبر جماعيّ وأنّهم يمشون فوق القبور، وأنّهم يرتاحون ويتشمّسون فوق جثث القتلى، أصحاب الأرض.
على شاطئ الطّنطورة كانت حياة عامرة غنيّة.. هنا كانت عائلات، وكان رجال ونساء، وكان أطفال يلهون، وكان شبّان وصبايا يحبّون ويتزوجون ويغنّون ويرقصون ويشربون القهوة.. ويشاهدون مسرحيّات.
استهلّ مخرج فيلم "طنطورة" فيلمه بجملة قالها يغئال ألون، من أشهر القادة العسكريّين في حرب 1948 ثمّ كان وزيرًا للمعارف ووزيرًا للخارجيّة في حكومة غولدا مئير وهذا نصّها: "شعب بلا ماضٍ هو شعبٌ بلا مستقبل!!".
هل هذا ماضيكم يا جنرال يغئال ألون؟
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com