طقسُ الشتاء يسود ويتمدد عبر النافذة. اليوم يومٌ شتويٌّ آخر. أوراق الشجر تبدو عبر النافذة تهتزُّ كأنها أوتار آلة موسيقيّة حين تُداعبها أنامل الفنّان.
اليوم يومُ إجازة، "شارع الشجر" خالٍ من السيّارت والبشر، الوقت صباحا، لا أثر بتاتا لزقزقة العصافير ولا لبرجمة الحمام .. كم يحنُّ المرءُ إلى زقزقة العصافير؟؟ سيمفونيّة ربّانية تضاهي وتبزُّ موسيقى بتهوفن وأماديوس موزارت وشتراوس وبليغ حمدي ورياض السنباطي.
قضينا يوم أمس، الإجازة أيضا، نهاية الأسبوع، في جميل محافظة الخليل والرُبوع. لا أثر لفاكهة العنب ولا للدُرّاق ولا للكرز، ولا حتّى للتين، التينة الخرتمانيّة الباسقة الضخمة انصبغت أوراقها باللون الأصفر تتدلّى على فروعها أو تفترش أديمها.
معظم الأشجار بدت عارية خجلة تُلفّعها قطرات حبّات المطر، إلا أشجار الزيتون تقف شامخة بكامل زينتها وخضارها وحليّها وشموخها وفرحتها، فقد فرغت للتو من إغداق جزيل كرمها من الزيتون والزيت بركة للعباد، نهارا جهارا على رؤوس الأشهاد.
البرد قاس وقارص في الجنوب، يتفوّق على برد رام الله والبيرة، جبالٌ عاليةٌ شامخةٌ تتناغم مع جبالٍ عاليةٍ شامخةٍ، وتتسابق معها في "بثِّ" لوعتها من ثقل سواد الإحتلال الرابض داخل مسامات وطننا، يسدّ الهواء النقي عن أنوفنا ويزكمنا بمخلّفات مستوطناته الكريهة، التي تقتحم رؤوس التلال والهضاب بعد أن استولت على البحر والساحل وعلى واحات الموز والنخيل.
من خلال زجاج نافذتي المتين محكم الإغلاق تسلل صوت بائع الكعك الصباحي، صوته جهوري قوي تشوبه بحّة من أثر الطقس والبرد، يُنادي بصورة رتيبة:
"كعك .. كعك .. يالله يا كعك .. معانا كعك".
الكعك بالسمسم له معزّة خاصة لدى الفلسطينيين، نحن نطلق عليه "كعك القدس" حتى لو كان مصنوعا ومُباعا في نابلس أو جنين .. "كعك القدس"، هو فعلا وأصلا كعك القدس، مصنوع في مخابز مدينة القدس العتيقة، .. لكننا أيضا نحبّ أن نعزوه للقدس ولشوارع القدس العتيقة .. يا مدينة السلام، من أجلك نُصلّي .. وفيك نُصلّي، في المسجد الأقصى وفي كنيسة القيامة، ما استطعنا إليه سبيلا.
نداء بائع الكعك المُتكرّر استفزّني وحفّزني، .. لكنه لم يُنادي ويقول:
ساخنة يا كعك!!!
لأنها لا يمكن أن تكون ساخنة في هذا الطقس البارد، وحبّاتها مُكدّسة على "عرباية" البائع .. لكنه حفّزني، أعترف بأنه حفّزني لشراء كعك القدس، لكن الكعك الساخن.
بدّلت ملابسي بسرعة وخرجت يلفح وجهي نسيم الصباح البارد، ركبت سيارتي وتوجّهت مباشرة لمخبز الكعك في رام الله التحتا، مخبز أعرفه منذ سنوات، متخصص في صناعة وخبز وبيع الكعك، كعك القدس فقط، لا يبيع شيئا آخر مطلقا غير كعك القدس وتوابعه: "الفلافل ذو الحجم الكبير بالسمسم والبيض المسلوق أو المشوي بالفرن"، و"رشة" الملح مع الزعتر المطحون.
اشتريت ثلاث كعكات ساخنة خارجة لتوّها من "حمّ" نار التنّور على الحطب .. شهيةٌ ولذيذة.
وقلت في نفسي ما دمت قد وصلت إلى رام التحتا فلا بأس أن أكمل شراء مستلزمات ومُكوّنات فطور فلسطيني صباحي مصاحب لكعك القدس.
اشتريت من مطعم أيمن، وعندما وصلت كان المطعم خاليا من الزبائن، فالوقت ما زال باكرا في صباح يوم السبت، ثلاثة صحون: صحن حمّص وصحن مسبّحة وصحن فول.
الحقيقة أنني مُتعوّد منذ سنوات أن أشتري صباحا من مطعم أيمن، فحمّصه وفوله تتميّز بالجودة العالية والطعم اللذيذ، وأيمن لطيف في التعامل ويده كريمة في بيع الزبائن.
ومن أجل أن أنهي "جولة" تحضير الفطور الصباحي الشتوي عرّجت على محل فلافل أبو خليل في المنطقة والجوار، واشتريت كيسا صغيرا مليء بحبّات الفلافل الساخنة الشهيّة.
قفلت راجعا واخترقت وسط مدينة رام الله، من جهة دوّار الساعة وبعدها دوّار الأسود. الشوارع شبه فارغة والمحلات التجارية ما زالت مقفلة، فالوقت ما زال مبكرا.
شجرة الميلاد تنتصب باسقة شامخة في دوّار الساعة تهيّؤاً لأعياد الميلاد المجيدة وأستقبالا لرأس العام الجديد 2022 بعد ثلاثة أسابيع ونيّف.
اكتست بكامل زينتها وحليّها من المصابيح متعددة الأشكال والألوان لكنّها لم تُنار بعد، ربما في الأيام القليلة القادمة، لتصبح مكانا مُفضّلا تؤمّه العائلات صغارها وكبارا للإستمتاع بمنظرها وأخذ الصور التذكاريّة إلى جوارها وحولها.
نتمنى عيدا سعيدا مجيدا لشعبا الفلسطيني الواحد الموّحد ولشعوب العالم قاطبة، وأن يحمل العام الجديد على جناحية بشائر طيّبة لشعبا الذي ما زال يرزح تحت نير الإحتلال لأكثر من 73 عاما طوال.
وأن يحمل لنا هذا الشتاء القارص غيثا مدراراً من السماء.
كاتب ودبلوماسي فلسطيني