Share this link via
Or copy link
تتناول هٰذِهِ الدِّراسة البحر الشِّعريَّ الَّذي استحدثته الشَّاعرة السُّوريَّة رنا صالح صدقة، يسبقه حديث عن الأوزان الـمستحدثة ونماذج منها، وقبل الخوض في دراسته، أقول: لقد اطَّلعت عَلى جلِّ التَّعقيبات الَّتي عقَّب بها أصحابها عَلى إبداع الشَّاعرة رنا الجديد، ووجدتها بين المادح والقادح، إِلَّا أنَّ القادحين في المحاولة وفرص نجاحها كثر، بل ومنهم من راح يسيء للشَّاعرة، ومنهم من لـم يتورَّع عن السُّقوط في حضيض رخيص ليظهر نفسه ذاغيرة وأنَّ الشَّاعرة وقعت في الـمحظور، وقد لمست لدى أغلبهم الافتقار إِلى الذَّوق الموسيقي، فجاء حكمهم بالرَّفض للبحر بدءًا دون تروٍّ، وَهٰذا منطق يفتقر إلى العلميَّة والذَّوق الأدبي، فبعض الكلام لا يوصف سوى أنَّه كلام شوارع ليس محلُّه النِّقاش الأدبيّ
إِنَّ الاختلاف في الرَّأي أمر صِحِّيٌّ، ولا أحد يمكنه أن يفرض عليك أمرًا لا تستسيغه، لٰكِنْ ما دمتَ تناقش أدبًا فحريٌّ بك أن تكون مؤدَّبًا مهذَّب الكلام
لا أحد فوق النَّقد ولا نَصَّ فوق الأخذ والرَّدِّ والقَبول والرَّفض سوى الـمُقدَّس، ولم يقل أحد بقدسيَّة أيِّ نصٍّ أدبيٍّ
ولا يفوتني الإشادة بدراسة أستاذنا ومولانا الدُّكتور عمر خلُّوف، رغم اختلافنا معه في بعض الجوانب والنَّتائج، لكن ننصح من خاضوا في الـموضوع أن ينظروا في أسلوب مولانا الدُّكتور عمر خلُّوف ويتعلموا منه
وأرى إقصاء من لا ناقة لهم ولا بعير في العَروض صونًا للعَروض من عبث القاصرين عن الإدراك، وصونًا لأنفسهم أيضًا، فكثيرون منهم فضحهم جهلهم وبان عوارهم، ولسنا في ملعب أطفال، وأجزم يقينًا أنَّ جلَّهم لـم يُكابدوا سهر اللَّيالي في البحث والدَّرس، وإن كان الأمر في نظرهم مجرَّد تسطير كلام ليقال فلان أدلى برأي، فهناك الكثير من الصَّفحات عَلى الفيس،أشبه بجلسات العجائز الـمسائيَّة، أو الصَّباحيَّة عَلى فنجان قهوة، ولها روَّادها وهم كثُر، ويمكنهم أن يخوضوا فيها ويلعبوا، أمَّا أن يخوضوا فيما ليس لهم به علم، فأرى وجوب الضَّرب عَلى أيديهم وطردهم حقولنا
وبعد: فالعَروض والشِّعر العربيّ عامَّة غنائي، ودراسة العَروض سماعيًّا أجدى وأنفع منه كتابيًّا، وأذكر في هٰذا الصَّدد حديثًا لي مع الزَّميل المرحوم الشَّاعر العراقي عادل الدُّرَّة، رحمه الله، حيث أهدى للشَّيخ جلال الحنفي، رحمه الله، الوافر الحادي عشر وفق منهج الشَّيخ الحنفي، وهو وزن مستحدث لزميلناالشَّاعر الدُّرَّة [مفاعَلَتن مفاعلَتُنْ فَعَلْ] وقد أضافه الشَّيخ الحنفي إِلى عَروضه [انظر: العروض، تهذيبه وإعادة تدوينه/دار الشُّؤون الثَّقافيَّة العامَّة/ط3/ 1991/:571] ، ونقل لي عبارة على لسان الشَّيخ الحنفي، خاصَّة في الأوزان الـمستحدثة، أنَّ الشِّعر العربي أوَّل شرط فيه أن يقبل الغناء، فإن صحَّ غناء صحَّ أداءً واعتمادًا، أو قريبًا من هٰذا، فلا أذكر اليوم عبارته عَلى وجه الدِّقَّة
والشَّيخ جلال الحنفي، رحمه الله، من أعلام القرن العشرين في هٰذا الـمضمار، ولا يمكن لأحد أن يقدح في خبرته وسعة ثقافته واطِّلاعه، وقبوله وزن الزَّميل عادل الدُّرَّة، دليل سعة أفقه وعدم ضيقه بالآراء الأخرى حَتَّى لو خالفته، وقد تختلف معه في رأي أو حكم، وَهٰذا أمر جار في الخلق عَلى مرِّ العصور والأزمنة، وبكلّ الفخر أقول: لقد كان لي شرف الاطِّلاع عَلى كتاب الشَّيخ وامتلاكه يوم كانت بلادنا [أعني فلسطين48] قفرًا من العلم عَروض [مطلع تسعينات القرن الـماضي/ 1992] يوم اقتنيت كتاب الشَّيخ، أحضره لي طالب، من قريتي، يدرس في الأردن، كون الكتاب غير متوفِّر عندنا، وأخبرني يومها أنَّهم كادوا يصادرون الكتاب عَلى الحاجز، لكن شفع للكتاب أنَّ حامله كان طالبًا، وما زالت بلادنا قفرًا منه، فلا يُدرَّس العَروض عندنا، وهناك محاولات لطمس العربيَّة كلِّها عندنا تمارسهاالمؤسَّسة الرَّسمية، وجلُّ ما يُدرَّس من العَروض أنَّ بحر كذا تفاعيله كذا وكذا، وما نراه من إتقان الأوزان لدى شعراء الدَّاخل الفلسطيني أغلبه راجع إلىالاجتهاد الذَّاتي للشُّعراء، وحملتُ الرِّسالة عَلى عاتقي، وما زلت حَتَّى اليوم، وسأبقى حَتَّى آخر رمق في النَّفس، والشَّيء بالشَّيء يُذكر، فقد أخبرني عمي الـمجاهد يحيى حسن مرعي، رحمه الله، وهو أحد مجاهدي الثَّورة عام1948، وكان في أربعينات القرن الـماضي أمين سرِّ الثَّورة، وهو أمر كان سرًّا لم نعرفه، سوى يوم وفاته
وكان رجل الإسعاف في معركة الشَّجرة 1948 الَّتي استشهد فيها الشَّاعر عبد الرحيم محمود والقائد الجهادي عبدالله الأصبح، أخبرني عمِّي أنَّهم في زمن الانتداب أنهوا دراسة العَروض في الصَّفِّ السَّادس الابتدائي، فتخيل، يا رعاك الله، الحال الَّذي وصلنا إليه اليوم
وقد نفعني الله بعلم الشَّيخ جلال الحنفي، رحمه الله، من خلال كتابه، واعتبرت نفسي أحد تلامذته
تقول الشَّاعرة رنا في تقديمها للبحر « طالما رددتُ جملة استهوتني(فهيهات ياحبيبي ياحبيبي فهيهات)» والسُّؤال الَّذي يتبادر إِلى الذِّهن مباشرة كيف كانت تردِّد الجملة؟ هل كانت تردِّدها كلامًا، أم غناءً؟ والرَّاجح أنَّه الغناء، فلا يستهوي الإنسان ترديد كلام بلا نغم ولحن، أي إنَّها كانت تغنِّي الجملة، وَهٰذا معناه أنَّ غناء الوزن سبق النَّظم عليه، وَهٰذِهِ الطَّريقة الصَّحيحة، والشَّرط الأوَّل وفق كلام الشَّيخ جلال الحنفي، رحمه الله،إذن بداية الشَّاعرة مع الوزن كانت بداية صحيحة، ولم يكن فعلها من باب العبث أو اللَّهو
وإذا أمعنَّا النَّظر في قصَّة الخليل مع الأعرابي وتلقينه الفتى [نعم لا نعم لالا] وأنَّه علم يتوارثه الخلف عن السَّلف، ندرك أنَّ الغناء هو الأصل الأوَّل، واليوم نجد العَروض غنائيًّا في كلِّ حاضرة، بل نجده يتجوَّل في الأزقَّة عَلى ألسنة الكبار والصِّغار، وحين تسأل العامَّة عن العَروض لايعرفونه، لكنَّهم يؤدُّون الأغاني الشَّعبيَّة عَلى الـميزان العَروضي، ونقرِّب الأمر، في بلادنا أيَّام الدَّولة العثمانيَّة كان الجهل منتشرًا [سوى كتاتيب تحفيظ القرآن والحديث ومبادئ العربيَّة والحساب، هكذا نخمِّن] إِلى درجة أنَّك كنت لا تجد في القرية من يكتب ويقرأ سوى رجل واحد أو اثنين، وفي نفس الوقت نجد أغاني النِّساء انتقلت شفاهيًّا عبر الأجيال دون تدوين، وكلُّها موزونة عَروضيًّا، لكِنْ باللَّهجة العامِّيَّة، فهل نغالي لو طلبنا بإعادة تدريس العروض سماعًا وغناءً، لتخليصه مِمَّا أثقله وصعَّبه عَلى النَّاس؟
اختلف الـمعقِّبون حول التَّسمية وهل هو وزن أو بحر؟ ونقول إنَّه بحر، فالوزن يكون شكلًا واحدًا، أمَّا البحر فتتعدَّد أشكاله وضروبه، ولمولانا الدُّكتور عمر خلُّوف [البحر الدِّبيتي]، وهناك من يعتبر الدُّوبيت وزنًا وليس بحرًا، وعليه نقول: كلُّ وزن كان شكلًا واحدًا فهو وزن، وما أمكن استنباط أشكال منه فهو بحر، مثال: فاعِلُنْ فَعولُنْ، وزن تحدَّث عنه حازم القرطاجنِّي: «فالتَّركيبات الـمتناسبات إِنَّما تكون باقتران الـمتماثلات والـمتضارعات
ولا يقع في اقتـران الـمتضادَّات والـمتنافرات تركيب أصلًا
وقد يكون الجزء مضادًّا للآخر من وجه، مضارعًا له من وجه آخر، مثل فاعِلُنْ وَفَعولُنْ، فإنَّهما وإن تضادَّا من جهة الوضع بأن قُدِّم في أحدهما ما أُخِّر في الآخر، فقد ضارع أحدهما صاحبه من جهة أَنَّ صدره مماثل لعجزه» [منهاج البلغاء: 248] وقد أسماه بعض الـمعاصرين الـمتدارب، نحت الاسم من الـمتدارك والـمتقارب، لكِنَّهُ شكل واحد، فهو إذن، وزن وليس بحرًا، غير أنَّه وزن قديم وليس حديثًا، قال ابن عربي:
«لَيْسَ في الوُجودِ
مَنْ يَقولُ رَبِّي
غَيْـرُهُ تَعالى
إِذْ أَقولُ رَبِّي
ما أَرى مُحِبًّا
في هَوى مُحِبِّ
إِنَّما هَواهُ
أَنْ يَكونَ حِبِّـي
في هَواهُ يَجْري
إِذْ دَعا بِلُبِّـي» [ديوان ابن عربي: 435]
ونشر الشَّاعر أحمد خيرت قصيدة عَلى طريقة الـمزدوجات الرَّجزيَّة:
قِطَّتـي صَغيـرهْ
وَاسْمُها نَميـرَهْ
شَعْرُها جَميلُ
ذَيْلُها طَويلُ
لَعْبُها يُسَلِّي
وَهْـيَ لي كَظِلِّـي
عِنْدَها الـمهارَهْ
كَيْ تَصيدَ فارَهْ
فاعِلُنْ فَعولُنْ
فاعِلُنْ فَعولُنْ [مجلَّة أبوللُّو ع3- نوفمبر 1932: 256]
وللشَّيخ محمد بن أب الـمزمري «الجزائر» (ت 1160هـ) قصيدة اعتبرها النَّاظم وزنًا جديدًا سمَّاه «بحر الـمضطرب» وهي في مدح الرَّسول، صلَّى الله عليه وسَلَّم، والَّتي أعتبرُها تطويرًا لوزن الـمتدارب، وقد بلغت القصيدة 89 بيتًا، نظمها على حروف الأبجديَّة بالطَّريقة المغربيَّة وليس الـمشرقيَّة نقتطف منها:
«صَل يا إِلٰهـي ثُمَّ سَلِّمْ
دائِمًا عَلـى خَيْـرِ الأَنامِ
ما دَعاكَ أَوْ لَبَّاكَ مُحْرِمْ
قاصِدًا إِلى البَيْتِ الحَرامِ
أَحْمَدٌ رَسولُ اللهِ أَحْمَدْ
سَيِدُ الوَرى طٰهَ الـمُمَجَّدْ
فَضْلُهُ مُبينٌ لَيْسَ يُجْحَدْ
إِذْ حَوى الـمَعالي بِالتَّمامِ
فَهْوَ في ضُروبِ الفَخْرِ أَوْحَدْ
غَيْـرَ أَنَّ فيهِ القَوْلَ نامِ»
فاعِلُنْ فَعولُنْ فاعِلاتُنْ
فاعِلُنْ فَعولُنْ فاعِلاتُنْ
ومخطوط القصيدة موجود في خزانة الشَّيخ محمَّد باي بلعالم، والـمكتبة غير مرقَّمة، مع الأسف، ويصعب الحصول على المخطوط
وقد ساعدني في الحصول على القصيدة الزَّميل الدُّكتور محمَّد بلعالم، وله منِّي كلَّ الشُّكر
وقد نظمه البعض محذوفًا، مثال شوقي في قصيدته:
«مالَ واحتجبْ
وَادَّعى الغَضَبْ
فاعِلُنْ فَعَلْ/ فاعِلُنْ فَعَلْ»
ونجد الوزن عينه في أغانينا الشَّعبيَّة، مثال:
عَدِّدوا القِهيوَهْ
حَوَّلوا النَّشاما
فاعِلُنْ فَعولُنْ
فاعِلُنْ فَعولُنْ
ومن لـم يسمع أمَّ كلثوم تصدح بشعر الشَّاعر طاهر أبو فاشا (1908- 1989م) في أوبريت «رابعة العدويَّة»، خاصَّة قصيدة «عروس السَّماء» الَّتي اشتهرت بمطلعها «أَوْقِدوا الشُّموسْ» الَّتي لحَّنها الـموسيقار محمَّد الـموجي (1923- 1995م)، وهي عَلى وزن الـمتدارب، والقصيدة مثبتة في مجموعته «راهب اللَّيل» وقد التزم فيها وزن «فاعِلُنْ فَعولْ» سوى بعض الشُّطور فجاءت «فاعِلُنْ مَفْعولْ»:
«أَوْقِدوا الشُّموسْ
اُنْقُروا الدُّفوفْ
مَوْكِبُ العَروسْ
في السَّما يَطوفْ
وَالـمُنى قُطوفْ
اُنْقُروا الدُّفوفْ
فاعِلُنْ فَعولْ
فاعِلُنْ فَعولْ» [مجموعة راهب اللَّيل: 117-118
وأيضًا في نهاية كتابه «العشق الإِلٰهي» وهو غير مرقَّم]
أوردنا هٰذا الوزن بتوسُّع، لأنَّنا وجدنا بين الـمعقبِّين من ذكره عَلى أنَّه وزن جديد، وما هو بجديد
وزن جاهليٌّ أعرض عنه الخليل
أَشْرِقْ ثَبيرُ
كَيْما نُغيرُ
مُسْتَفْعِلاتُنْ
مُسْتَفْعِلاتُنْ
كان للعرب في الجاهليَّة "غناء دينيٌّ يرتِّلونه في أعيادهم الدِّينيَّة، على نحو ما مرَّ من تلبياتهم، فكانوا يردِّدون مثل: «أَشْرِقْ ثَبيرُ
كَيْما نُغيرُ»" [شوقي ضيف: تاريخ الأدب العربي: 193]
لاحظ قوله غناء، وليس سجعًا، والوزن «مُسْتَفْعِلاتُنْ
مُسْتَفْعِلاتُنْ»، وما دام غناء وموزونًا ومقفَّى، فهو وزن شعريٌّ، وليس من باب السَّجع، ولا نجد له أثرًا عند الخليل، ربَّما بسبب تركيبه وأنَّ شطره مكوَّن من تفعيلة واحدة تختلف عن باقي تفاعيل الخليل، فهي تساعيَّة ولا توجد تفعيلة أصليَّة عند الخليل تُساعيَّة
إذن هو وزن سابق عَلى الخليل، وحتَّى لو عرفه الخليل وتركه يظلُّ سابقًا عليه،وكلُّ أوزان البحور سابقة عَلى الخليل، فإذا ما وصلنا الأندلس وجدنا الوزن تُنظم عليه موشَّحات كما هو شطره تفعيلة، ووجدناه تطوَّر أكثر فصار رباعيَّ التَّفاعيل، وقد ذكره حازم القرطاجنِّي فقال: « وأمَّا الوزن الـمضارِع لهذا الـمخلَّع [مخلَّع البسيط
م
(م)] وهو الَّذي اعتمد الـمحدثون إجراء نهاياته على مثال [فَعولُنْ] فليس راجعا إلى واحد من هذه الأوزان، وإنَّما هو عَروض قائم بنفسه مُرَكَّبُ شَطْرِهِ من جزءيْنِ تساعيَّيْنِ على نحو تركيب الخبب وتقديره «مُسْتَفْعِلاتُنْ مُسْتَفْعِلاتُنْ» [منهاج البلغاء: 238] وفي مكان آخر نجد شرحًا إِضافيًّا حيث يقول: «وممَّا بني على أربعة أركان، الوزن الَّذي قدَّمتُ أنَّ الـمحدثين هم الَّذين عُلِمَ من أَقوالهم، ولا يبعد أن يكون من وضع العرب، فَإِنَّهُ متناسب الوضع، فيجب أن يلحق بـما يستعمل من الأوزان، ولنصطلح على تسميته بـِ الَّلاحق» [منهاج البلغاء: 256]
لاحظ قوله [هُوَ عَروضٌ قائِمٌ بـِنَفْسِهِ] و [ولا يبعد أن يكون من وضع العرب] ونقول بل مؤكَّد أنَّه من وضع العرب، ولا نعتقد أنَّ حازمًا يجهل الـمنسرح، وقد تحدَّث عنه وقرأ تفاعيله قراءة مغايرة
وجعل هٰذا الوزن مستقلًّا وإعطاؤه اسمًا دليل عَلى أنَّه مستقلٌّ وليس من الـمنسرح، بل هو تطوُّر للوزن الجاهلي
وفي كتابي [العَروض الزَّاخر واحتمالات الدَّوائر 2004] أصَّلت الوزن، وأسميته اللَّاحق التَّامّ واللَّاحق الـمنصوف، وممَّا جاء منصوفًا، هٰذا الـموشَّح مجهول القائل:
هٰذا التَّجَنِّـي
مِمَّنْ يَضِنُّ
مُسْتَفْعِلاتُنْ
مُسْتَفْعِلاتُنْ
مِنَ النَّوالِ
بِالطَّيْفِ يَدْنو
كَيْفَ يَطيبُ
عَيْشٌ لِـمِثْلي
وَلي حَبيبُ
مُغْرًى بِقَتْلـي
فَما يُنيبُ
حينًا لِوَصْلي
وَلا يُمَنِّـي
وَلا يَمُنُّ
مُتَفْعِلاتُنْ
مُتَفْعِلاتُنْ [محمَّد زكريَّا عنان: ديوان الـموشَّحات الأندلسيَّة: 138- 139، وقال في هامش 139 ما نصُّه " النَّصُّ عن «الرَّوضة»، وهو مِمَّا لم يَسبقْ نَشره]
وممَّا جاء تامًّا:
يا راكبًا وَالِّلوا شِمالٌ
عَنْ قَصْدِهِ وَالعَصا يَمينُ
مُسْتَفْعِلاتُنْ مُتَفْعِلاتُنْ
مُسْتَفْعِلاتُنْ مُتَفْعِلاتُنْ
نَجْدًا عَلـى أَنَّهُ طَريقٌ
تَقْطَعُهُ لِلصَّبا عُيونُ
مُسْتَفْعِلاتُنْ مُتَفْعِلاتُنْ
مُسْتَعِلاتُنْ مُتَفْعِلاتُنْ
وَحَيِّ عَنِّـي إِنْ جُزْتَ حَيًّا
أَمْضى مَواضيهِمُ الجُفونُ
مُتَفْعِلاتُنْ مُسْتَفْعِلاتُنْ
مُسْتَفْعِلاتُنْ مُتَفْعِلاتُنْ [محمَّد بن غالب الرُّصافي: الدِّيوان: 131]
أو قول أبي بكر بن مجبر:
إِنْ سَلَّ سَيْفًا بِناظِرَيْهِ
لَمْ تَلْقَ فينا إِلاَّ قَتيلَا"
مُسْتَفْعِلاتُنْ مُتَفْعِلاتُنْ
مُسْتَفْعِلاتُنْ مُسْتَفْعِلاتُنْ [انظر: ديوان ابن مجبر: 118]
بل وجدنا أكثر من ذٰلِكَ ما تدخل فيه مستفعلاتن مخبولة مُتَعِلاتُنْ مُتَعِلاتُنْ، ولا يمكن تجيير الوزن في هذه الحالة إِلى الـمنسرح:
هُوَ حَبيبـي هُوَ طَبيبـي
هُوَ حَسيبي هُوَ رَقيبـي
مُتَعِلاتُنْ مُتَعِلاتُنْ
مُتَعِلاتُنْ مُتَعِلاتُنْ
هُوَ عِمادي هُوَ زِنادي
هُوَ مُرادي في كُلِّ أَمْري
مُتَعِلاتُنْ مُتَعِلاتُنْ
مُتَعِلاتُنْ مُسْتَفْعِلاتُنْ
هُوَ مُجيـري هُوَ نَصيري
هُوَ سِلاحي في كُلِّ خَطْبِ
مُتَعِلاتُنْ مُتَعِلاتُنْ
مُتَعِلاتُنْ مُسْتَفْعِلاتُنْ
هُوَ هَوايَ هُوَ مُنايَ
هُوَ رِضايَ شَوْقي وَحُبِّـي
مُتَعِلاتُنْ مُتَعِلاتُ
مُتَعِلاتُ مُسْتَفْعِلاتُنْ
هُوَ اعْتِمادي هُوَ اعْتِدادي
هُوَ اسْتِنادي ضَوْئي وَنوري
مُتَفْعِلاتُنْ مُتَفْعِلاتُنْ
مُتَفْعِلاتُنْ مُسْتَفْعِلاتُنْ
هُوَ شِفائي هُوَ ضِيائي
هُوَ رَجائي فـي كُلِّ دَرْبِ
مُتَعِلاتُنْ مُتَعِلاتُنْ
مُتَعِلاتُنْ مُسْتَفْعِلاتُنْ
وَجَّهْتُ وَجْهـي كُلِّـي إِلَيْهِ
سُبْحانَ رَبِّي سُبْحانَ رَبِّي
مُسْتَفْعِلاتُنْ مُسْتَفْعِلاتُنْ
مُسْتَفْعِلاتُنْ مُسْتَفْعِلاتُنْ [مُحَمَّد بن عبد الهادي العجيل الحسني اليماني: كتاب مجموع لطيف أنسي في صيغ الـمولد النَّبويِّ القدسي: 371] ويعذبُ لحنه حين نقرأ مع الوقف عَلى حركة الواو من (هُوَ) ثُمَّ الـمتابعة، والوقف هنا ليس وقفًا طويلًا، بل أقلّ من ثانية (هُوَ/حَبيبي) ولا يمتنع إشباع حركة الواو (هُوا) لٰكِنْ سيظهر شيء من النَّشاز، كَذٰلِكَ لا يمتنع تشديد الواو (هُوَّا) مع إشباع الحركة، لٰكِنْ الأوفق بين الكلِّ الأوَّل، أي الوقف
هٰذا الـموشَّح لا يمكن تجييره إِلى الـمنسرح، وسيختل الوزن لو حاولنا، فالوزن هو اللَّاحق، سبق وجود الخليل وتطوَّر بعده، فإذا انتقلنا إِلى العصر الحاضر نجدالوزن في أغانيا الشَّعبيَّة في ردَّات الـمجوز والأرغول في دبكاتنا الشَّعبيَّة:
يا وَيْلِ حالي يا وَيْلِ حالي
ذَوَّبْ فُؤادي طولِ اللَّيالي
مُسْتَفْعِلاتُنْ مُسْتَفْعِلاتُنْ
مُسْتَفْعِلاتُنْ مُسْتَفْعِلاتُنْ
ويمكننا استبدال «طولِ اللَّيالي» بِ «سَهَرِ اللَّيالي» ونقف على مُتْفاعِلاتُنْ، وقد أصَّلت هٰذا الوزن أيضًا وأسميته الـملحق التَّامّ والـمنصوف، ووجدته في الشِّعر لدى أستاذنا الـمرحوم بروفيسور فاروق مواسي، رحمه الله
فإذا أخذنا الوزن الَّذي سُمِّيَ الخفيف العتاهي (نسبة إِلى أبي العتاهية):
فاعِلُنْ فاعِلاتُنْ
فاعِلُنْ فاعِلاتُنْ
أو بقراءة:
فاعِلاتُنْ فَعولُنْ
فاعِلاتُنْ فَعولُنْ
عُتْبَ، ما لِلخيالِ
خَبِّريني، ومالي؟
لا أراهُ أتاني
زائرًا مذْ لَيالِ
لَوْ رَآني صَديقي
رَقَّ لي أَوْ رَثى لي
أَوْ يَراني عَدُوِّي
لانَ مِنْ سوءِ حالي [ديوان أبي العتاهية- التَّكملة: 618]
فاعِلُنْ فاعِلاتُنْ
فاعِلُنْ فاعِلاتُنْ
فاعِلاتُنْ فَعولُنْ
فاعِلاتُنْ فَعولُنْ
وفي هامش الصَّفحة قيل له حين قال هٰذا الشِّعر: خرجت عن العَروض
فقال: أنا أكبر من العَروض، وأبو العتاهية معاصر للخليل، ونرى قوله «أنا أكبر من العَروض» ليس من باب الغرور، بل من باب النَّظم عَلى الفطرة والسَّليقة، دون التَّقيُّد بقواعد العَروض، والوزن سابق عَلى أبي العتاهية، فقد «وُجد في بئر باليمامة ثلاثةأحجار، وهي بئر طسم وجديس، في قرية يقال لها مَعْنِق، بينها وبين الحجر ميل، وهم من بقايا عاد غزاهم تُبَّع، فقتلهم، فوجدوا في حجر من الأحجار مكتوبًا: [ننقل ما نقش عَلى الحجر الثَّاني]
كُلُّ عَيْشٍ تَعِلَّهْ
لَيْسَ لِلدَّهْرِ خِلَّهْ
فاعِلُنْ فاعِلاتُنْ
فاعِلُنْ فاعِلاتُنْ
يَوْمُ بُؤْسى وَنُعْمى
وَاجْتِماعٌ وَقِلَّهْ
فاعِلُنْ فاعِلاتُنْ
فاعِلُنْ فاعِلاتُنْ
حُبُّنا العَيْشَ وَالتَّكاثـُرَ جَهْلٌ وَضِلَّهْ
بَيْنَما الـمَرْءُ ناعِمٌ
في قُصورٍ مُظَلَّهْ
في ظِلالٍ وَنَعْمَةٍ
ساحِبًا ذَيْلَ حِلَّهْ
لا يَرى الشَّمْسَ مِلْغَضارَةِ إِذْ زَلَّ زَلَّهْ
لَمْ يُقِلْها وَبَدَّلَتْ
عِزَّةَ الـمَرْءِ ذِلَّهْ
آفَةُ العَيْشِ وَالنَّعيمِ كُرورُ الأَهِلَّهْ
وَصْلُ يَوْمٍ بِلَيْلَةٍ
وَاعْتِراضٌ بِعِلَّهْ
وَالـمَنايا جَواثِمٌ
كَالصُّقورِ الـمُدِلَّهْ
بِالَّذي تَكْرَهُ النُّفوسُ عَلَيْها مُطِلَّهْ»
فاعِلاتُنْ مُتَفْعِلُنْ
فَعِلاتُنْ فَعولُنْ [السِّيرة النَّبويَّة لابن هشام: ج1/ 107- 108]
لاحظ أوَّل بيتين فاعِلُنْ فاعِلاتُنْ، والبيت الأوَّل مصرَّع، لٰكِنْ الثَّاني ليس مصرَّعًا، والبقيَّة الصُّدور مجزوء الخفيف، والأعجاز مجزوء الخفيف ضرب مخبون مقصور
ولو اكتفينا بأوَّل بيتين فهو الوزن الَّذي سُمِّي الخفيف العتاهي، ولا مجال لاتِّهام أبي العتاهية بأنَّه اطَّلع عَلى الشِّعر، لٰكِنْ من إجابته (أنا أكبر من العَروض) ندرك أنَّه نظم عَلى الفطرة والسَّليقة دون تقيُّد بقانون العَروض، وبالتَّالي يمكن القول إنَّه غنَّى شعره أو ترنَّم بلحنه ومضى فيه، وهو عين ما وقع للشَّاعرة رنا، فهي أيضًا ترنَّمت باللَّحن وغنَّت ثُمَّ كتبت، وهل يمكننا القول إنَّ أبا العتاهية أخذ عجز مجزوء الخفيف المخبون المقصور وجعله وزنًا، وبالتَّالي عدم إقرار جدَّة ما استحدثه؟
والشَّيء بالشَّيء يذكر، فمن الأوزان الَّتي استحدثتها وأصَّلتها في كتابي [العَروض الزَّاخر/2004] وزن أسميته الفائض، ووضعت له مفتاحًا:
بَحْرٌ بِأَنْغامٍ يَفيضُ
مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلاتُنْ
مُسْتَفْعِلاتُنْ هنا أصليَّة، ورحت أدندن الوزن وكان لحنًا سائغًا جميلًا، وظلَّ الأمر عندي حَتَّى سمعت النِّساء تغنِّيُّ:
سيروا عَلى ماقَدَّرَ اللهْ
وِلْكاتِبو رَبَّكْ يِصيرْ
مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلاتُنْ
مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلانْ
وكانت سعادتي فوق الوصف
جميع الأوزان الَّتي ذكرنا مستعملة، وليست في عروض الخليل، فالاستحداث قائم ومستمرٌّ، ولكلّ عصر ذائقة، هناك الكثير من الأوزان الـمستحدثة الـمستعملة، منها ما أسميناه الـمقبول، وقد ذكره حازم في منهاجة ولم يُسَمِّه، وأصَّله مولانا الدُّكتور عمر خلُّوف باسم اللَّاحق، ولا نرى داعيًا لإيراد أوزان أخرى ففيما ذكرنا الكفاية
نأتي الآن إِلى بحر الرَّنا، تقول الشَّاعرة في تقديمها «طالما رددتُ جملة استهوتني(فهيهات ياحبيبي ياحبيبي فهيهات) و هذه العبارة جعلتني أستلهم فكرة بحري الجديد من المضارع فعكست التفاعيل كما جرى للشاعر احمد مطر في قصيدته (ميلاد موت) حيث قام بعكس مجزوء الخفيف ليحصل على بحر المجتث فتولد لديه بحره الخاص (مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن مستفعلن)
أهوَ الحبُّ أن أرى منيّتي في الأماني؟
الفكرة بدأت بأخذ الشطر الأول من بحر المضارع ثم عكست تفعيلاته في الشطر الثاني فنتج مجزوء المطرد ثم زاوجت بين الوزنين( المضارع ومجزوء المطَّرد) لِتلدَ لنا هذه المزاوجة بحراً جديدا
ويستخدم في هذا البحر الجديد ثلاثة ضروب :
الضرب الأول مفاعيلن
_ والثاني مقبوض مفاعلن
_والثالث محذوف مفاعي =فعولن
_مفتاح هذا البحر ووزنه:
عكست المضارعاتِ
مشرفاتٌ شريفاتي
فذوقوا رضاب حرفي واطعموا شهدَ آياتي
بأبياتِ هاتِ شعراً
هاتِ شعراً بأبياتِ
مفاعيلُ فاعلاتن
فاعلاتن مفاعيلن»
تقول إنَّها (عكست الـمضارع)، وَهٰذا معناه الاستقلال عن المضارع فقد أصبح ذا خصائص مستقلِّة تفاعيل وزحافات، فلا وتد مفروق هنا، ولا مانع يمنع مجيء مفاعيلن صحيحة في صدور الأبيات، وَهٰذا لـم أجده في قصائد الشَّاعرة، مع أنَّه جائز ما دمنا في وزن جديد، ولا مانع من خبن فاعِلاتُنْ أيضًا، كَذٰلِكَ لا مانع من زيادة الضُّروب، ضرب مقصور مَفاعيلْ وضرب مسبغ مفاعيلانْ، وصحيح أنَّ تفاعيل البحر هي نفس تفاعيل الـمضارع ومجزوء الـمطَّرد (المهمل)، لٰكِنْ جمعهما في بيت واحد لا يمكن اعتباره مضارعًا ولا مجزوء الـمُطَّرد، بل هو مولود جديد بمواصفات جديدة تختلف عنهما، والوزن بجريانه لا بإفراد كلِّ بيت، مثلًا بيت من الكامل مضمر، سنقرأه جوازًا (مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ
مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ)، هٰذِهِ القراءة بالإفراد يمكن عدُّها من الرَّجز ومن الكامل المضمر، لٰكِنْ البيت في قصيدة من الكامل لا يمكن عدُّه من الرَّجز، ونفس الحكم يجري عَلى (مَفاعِلُنْ فاعلاتن) بالإفراد فهي مجتثّ (مُتَفْعِلُنْ فاعِلاتُنْ) ومضارع، لٰكِنْ وجود هٰذا البيت في قصيدة عَلى المضارع لا يمكن أن نعدَّه من الـمجتثّ، وعليه نحكم عَلى كلِّ بيت تشابه بسبب الزِّحافات، فالوزن بجريانه، وأيّ بيت يلتبس يُنْظر ما قبله وما بعده، فيعرف إِلى أيِّ وزن ينتمي
من القصيدة الأولى:
رَمت سهمَك الرماةُ
وبِلحظ المها ماتوا
أتقتاتُ من فؤادي
يا فؤادي أتقتاتُ؟!
أنا بالقصيد نشوى
فاملؤوا الكأس أو هاتوا
نلاحظ التزامها كفَّ مَفاعيلُنْ الأولى، ولا أرى مبرِّرًا لِهٰذا، فيمكنها استعمال مَفاعيلُنْ، مَفاعِلُنْ، مَفاعيلُ، فكلُّها جائزة في الوزن
*******************
ومن القصيدة الثَّانية:
سلبت مني فؤادي ردّهُ يا حبيبُ رُدّ
لماذا تركت نجمي آفلاً للهوى يصدّ؟!
وكيف تبغي عروساً والزغاريد لم تُعدّ؟
صدر البيت الأوَّل والثَّالث: مَفاعِلُنْ فاعِلاتُنْ، ويمكن قراءتهما مُتَفْعِلُنْ فاعِلاتُنْ، ويكونلدينا الـمضارع والـمجتثّ، لٰكِنْ صدر البيت الثَّاني مَفاعيلُ فاعِلاتُنْ منع نسبتهما إلى الـمجتثّ، وقلنا إنَّها مَفاعيلُنْ مقبوضة، وليست مُسْتَفْعِلُنْ مخبونة
كَذٰلِكَ الضَّرب في هٰذا الشَّكل جاء الرَّويُّ مشدَّدًا ساكنًا، أي إنَّه مَفاعِلانْ مقبوض مسبغ، ولاحظ الفرق بين قولنا [والزغاريد لم تُعدّْ؟] وبين قولنا [والزغاريد لم تَفِدْ]، في الأوَّل ضرب مقبوض مسبغ، والثَّاني ضرب مقبوض
والأوَّلهو عين ماقصدنا بزيادة الضُّروب
ومن الضَّرب الصَّحيح [فاملؤوا الكأس أو هاتوا] ضرب صحيح، ولو قلنا [فاملؤوا الكأس أو هاتوهْ] مفاعيلانْ ضرب صحيح مسبغ
فَهٰذِهِ خمسة أشكال للبحر،أظنُّها كافية لمنحه اسم بحر وليس وزنًا
****************
ومن القصيدة الثَّالثة:
سرى ركبهم بفلكي وانضوى تحت ملكي
فضُمّوا رفات صوتٍ للصدى حين نبكي
وقل للصباح يدنو من عبيرٍ ومسكِ
فصبّارُ شارداتي صانَ ورداً بشوكِ
هٰذا الشَّكل الثَّالث،لاحظ تماثل الأعجاز مع وزن أبي العتاهية فاعِلُنْ فاعِلاتُنْ أو فاعِلاتُنْ فَعولُنْ، لٰكِنْ صدر البيت يحكم انتماء العجز
أعود وأقول، يمكن للشَّاعرة استعمال زحافات مَفاعيلُنْ الأولى كلّها بدون تحرُّج، كَذٰلِكَ يمكنها إضافة ضربين آخرين له (مَفاعيلْ مَفاعيلانْ) ليصبح للبحر خمسة أشكال
ويظلُّ النِّقاش مفتوحًا لمن أراد شريطة أن يكون ذامعرفة بالأمر، واختلاف الرَّأي لايعني خطأ الشَّاعرة، أو خطأمن خالفها الأمر، بل هي آراء تتعدَّد وأفكار تطرح وتُثري الـموضوع، أمَّا الرَّفض لمجرَّد عدم استساغته ذوقيًّا فليس ذوق شخص ما هو الحكم، وقد رأينا ابن الفرخان (ق6ه) يستحدث تفعيلة فاعلُ ويستعملها ابن الجوزي فيقصيدة له، كَذٰلِكَ جعل ابن الفرخان الرَّجز مكفوفًا، وسمَّاه الرَّجز المكفوف، ولا كفَّ في مُسْتَفْعِلُنْ ذات الوتد المجموع، ووجدنا ابن الجزري يستعمل الوزن في [المقدِّمة فيما عَلى قارئ القرآن أن يعلمه]، ونظمه مثمَّنًا ومسدَّسًا ومربَّعًا، ومشطور المثمَّن ومشطور المسدَّس ومشطور المربَّع فمن الـمثمَّن قوله:
تَسْتَعْمِلُ مَنْ أَصْبَحَ في أَمْرِكَ لا يَمْضي
مُسْتَفْعِلُ مُسْتَفْعِلُ مُسْتَفْعِلُ مُسْتَفْعِلْ
لا يَقْدِرُ أَنْ يَحْكُمَ بِالبَسْطِ أَوِ القَبْضِ
مُسْتَفْعِلُ مُسْتَفْعِلُ مُسْتَفْعِلُ مُسْتَفْعِلْ [د
عبد الرَّؤوف بابكر السَّيِّد- العَروض الـمقارن- العَربي والفارسي، الإبداع في العَروض: 2/316]
ومن المسدَّس:
في قَلْبِـَي ما يَهْزَأُ بِالجَمْرِ
وَالدَّمْعُ مِنَ الوَجْدِ غَدا يَجْري
مُسْتَفْعِلُ مُسْتَفْعِلُ مُسْتَفْعِلْ
مُسْتَفْعِلُ مُسْتَفْعِلُ مُسْتَفْعِلْ
أَصْبَحْتُ وَلا أَمْلُكُ في حُبِّـي
مِنْ أَمْرِيَ ما يُصْلِحُ لي أَمْري
مُسْتَفْعِلُ مُسْتَفْعِلُ مُسْتَفْعِلْ
مُسْتَفْعِلُ مُسْتَفْعِلُ مُسْتَفْعِلْ [د
عبد الرَّؤوف بابكر السَّيِّد- العَروض الـمقارن- العَربي والفارسي، الإبداع في العَروض: 322]
ومن المربَّعُّ
اَلعِلْمُ هُوَ الـمنْقِذُ
لَوْ لَمْ تَكُنْ مَغْرورَا
مُسْتَفْعِلُ مُسْتَفْعِلُ
مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلْ
لا يَلْبَثُ مَنْ يَجْهَلُ
أَنْ يَرْكَبَ مَحْظورَا
مُسْتَفْعِلُ مُسْتَفْعِلُ
مُسْتَفْعِلُ مُسْتَفْعِلْ [د
عبد الرَّؤوف بابكر السَّيِّد- العَروض الـمقارن- العَربي والفارسي، الإبداع في العَروض: 325]، نكتفي بهذا وننقل أربعةأبيات لابن الجزريسلك نفس المسلك،ولكفي تفعيلة واحدةفي كل بيت:
مَخارِجُ الحُروفِ سَبْعَةَ عَشَرْ
عَلى الَّذي يَخْتارُهُ مَنِ اخْتَبَـرْ
لِلْجَوْفِ: أَلِفٌ وَأُخْتاها، وَهِيْ
حُروفُ مَدٍّ لِلْهَواءِ تَنْتَهِيْ
مُسْتَفْعِلُ مُتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ
مُتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُتَفْعِلُنْ
ثُمَّ لِأَقْصى الحَلْقِ هَمْزٌ هاءُ
وَمِنْ وَسَطِهِ: فَعَيْنٌ حاءُ
مُسْتَعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلْ
مُتَفْعِلُ مُتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلْ
وَهُوَ: إِعْطاءُ الحُروفِ حَقَّها
مِنْ كُلِّ صِفَةٍ وَمُسْتَحَقَّها
فَعِلَتُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُتَفْعِلُنْ
مُسْتَفْعِلُ مُتَفْعِلُنْ مُتَفْعِلُنْ
ثانِ فَعَلْنَ، وَقَعَتْ،رُومٌ، كِلَا
تَنْزيلُ شُعَرَا، وَغَيْرِها صِلَا
مُسْتَعِلُنْ فَعِلَتُنْ مُسْتَفْعِلُنْ
مُسْتَفْعِلُ مُتَفْعِلُنْ مُتَفْعِلُنْ [منظومة الـمقدِّمة فيما يجب على قارئ القرآن أَنْ يَعْلَمَه، الصَّفحات: 1، 2، 3، 9]
وبعد قرن وجدناحازمًا يرفض جعل آخر الخماسي (فاعِلُنْ) والسُّباعي (مُسْتَفْعِلُنْ) وتدًا مفروقًا ولا سبَبًا ثقيلًا « فَهٰذا هو الصَّحيح الَّذي يشهد به السَّماع والقياس في القوانين البلاغيَّة في اعتبار تناسب التَّركيبات، إذ الدَّليل يقوم على أَنَّهُمْ لم يوقعوا الوتِد الـمفروق ولا السَّبب الثَّقيل في نهاية جزء خماسيٍّ ولا سباعيٍّ ولا فيما فوق ذٰلِكَ» [منهاج البلغاء: 234] وَهٰذا يعني رفض (فاعِلُ وَ مُسْتَفْعِلُ)
في النِّهاية لا يفوتني أن أشدَّ عَلى يدي الشَّاعرة رنا في اجتهادها، داعيًا إيَّاها إلى الـمضيِّ قدمًا دون الالتفات إِلى الخلف
(الجليل/فلسطين)