الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأحد 10 / نوفمبر 04:02

بيت الذكريات/ بقلم: ناجي ظاهر

ناجي ظاهر
نُشر: 22/11/21 14:08

الاحتفال في ذروته او قريبًا منها، هيصة لم ترَ البلدةُ مثلها منذ عمر. المكان يعبق بشذى الحركة، هذا يروح وتلك تغدو، الجميع منهمكون كلٌ بذاته. يهيمن ظل مديرة المدرسة على الاماكن دون أن يراها أحد. كلهم يحبونها ويحترمونها، لدقتها ومبادراتها الخيرية. شعورٌ طاغ يجتاحني أنا المعلّم الضيف في المدرسة.. شعور يهمس في أذني أن الاحتفال أوشك على نهايته وأنه من الافضل والاكمل لي أن أنسحب قبل صمت النهاية. منذ وعيت على الاحتفالات اتخذت قرارًا بيني وبين نفسي هو ألا أنتظر حتى نهاية الحفل وأن أغادره وهو في الذروة بل ان رؤيتي هذه ابتدأت في التبلور مع مضي الوقت، فصرت أنتظر اللحظة العالية المرتفعة لاستعد للمغادرة، ولترك المحتفلين الثملين بأجواء الاحتفال يصلون معه إلى نهايته، فيخرجون يرافقهم احساس بالنهاية، يدفعهم للثرثرة الجوفاء او.. الصمت الرهيب.


أنسحب من ساحة البلدة أتعمّد ألا يراني أحد في محاولة مني لإغلاق باب التفسيرات الخاطئة، فأنا لم اغادر يا حضرة البيك لأن الاحتفال لم يعجبني، وإنما أنا اغادره لأنني امتلأت به ولا أريد أن أنتظر نهايته الصامتة. ليصلوا.. جميعهم.. إلى تلك النهاية أما أنا فإن لي شأنًا آخر. أسير في الطريق المؤدية إلى بيتي في راس الجبل. أمضى تلامس يدي الفَرِحة أغصان الاشجار المتكئة على الاسوار. ما أحلى بلدتي.. أما تلك الورود المجنونة فإنها تبهرني وتكاد تتربع على عرش قلبي.


أشعر بسيارة تتوقّف إلى جانبي، أرسل النظر إلى داخلها أرى زملائي معلمي المدرسة الرسميين، يدعوني نائب المديرة لأن أرافقهم، إلى احتفال تكريمي تقيمه مدرستُنا احتفالًا بنجاح الحفل، تعال لن تخسر شيئًا، البيت لن يهرب.. ثم انك واحد منا ولا يصح أن يتم التكريم بدونك. أرسل نظرة إلى بيتي في راس الجبل، فيدرك النائب رغبتي في العودة إليه، إلى مكتبتي، ذكرياتي وأشيائي الصغيرة هناك. يقول لي مرفقًا كلماته بابتسامة ودّية. تعال البيت لن يهرب.. يفتح لي باب السيارة.. أتخذ مقعدي بين بقية المسافرين. وتنطلق السيارة. تنطلق إلى مرتفعات الجبال.. ما هذه الاماكن وأين تقع.. إنني أراها أول مرة.. الله يستر.
ينزل الجميع من السيارة.. يلفت نظري أنهم جميعًا يرتدون القمصان البيضاء والبناطيل السوداء.. إلا أنا فإن ملابسي عادية.. عادية جدًا.. وصف أحد محبيّ ومحبي كتابتي حالتي فيها ب" المهرجلة"، ينتظم جميع المعلمين، في صف واحد، أقترب منهم اشعر أنني الشكل الشاذ بينهم، لا مكان لك يا كاتبنا المُحترم بين هؤلاء المنظمين المرتّبين. ابتعد عن صف المعلمين.. يبدأ الاحتفال.. أشعر بنفسي غريبًا.. يبدأ المغيبُ في الزحف إلى رؤوس الجبال تنازعني نفسي بالعودة إلى البيت.. أبتعد عن المحتفلين، أبحث عن طريق أعود عبرها إلى بيتي.. بيت ذكرياتي وأشيائي الحبيبات، أرسل نظرة إلى الجبال المحاذية الشاهقة، أنا لا استطيع أن اعبرها.. للعودة إلى بيتي.. مع هذا امضي في الطريق المُفضية إليها. قبل أن أصل إلى حافة الجبال القريبة.. اكتشف أنني إنما أتوقّف قريبًا من هُوةٍ يفصلهُا سور يشبه سور الصين العظيم. أجلس هناك وأفكر فيما عساي أفعل والمساء يقترب ولا احد يشعر بي وبرغبتي في العودة إلى بيتي .. عالمي الدافئ الحنون.. يمضي الوقت ثقيلًا بطيئًا، أشعر بوقع قدمين رقيقتين تدنوان مني حيث أجلس.. أشعر بأمل مشرق.. يقترب مني.. أرى طفلًا ذا عينين لامعتين براقتين تشبهان عيني عندما كنت طفلًا صغيرًا، الطفل يقترب مني.. أساله أين طريق العودة.. يبتسم .. لا أعرف.. قد تكون كل الطرق إلا هذا.. ويشير إلى الجبال المنتصبة السامقة قبالتنا. ما أن أشعر ببصيص أمل الطفولة يقترب مني حتى يبتعد.. يختفي الطفل من جاني.. أهتف أين ذهبت يا صغيري فتردّد الجبال البعيدة أين اختفيت يا صغيري.. لا صوت يُشبِهُ صوتي سوى صوت الجبال العالية. يلسعني بردُ المساء.. أغادر موقعي.. أبحث عن ذلك الطفل.. أرى كلَّ الناس.. إلا هو.. لا أراه، أين اختفيت يا طفلي الحبيب.. أنت فقط من سيعيدني إلى ذلك البيت.. البعيد القريب.. أمشي في الطريق وحيدًا.. أوجّه السؤالَ ذاته إلى كل مَن أراهم، من نساء ورجال.. شيوخ وعجائز، أكتشف أن أحدًا منهم لا يعرف طريق العودة، وأن لديه سؤالًا يُشبه سؤالي.. هم أيضًا يريدون العودة.. أين أنت أيها الطفل الغرير.. أين أنت أيها الامل المنير.. عد ألي.. أهمس في أذن نفسي..
المساحات تتحوّل إلى متاهاتٍ أعرف بداياتها ولا أرى نهايتها.. أعرف هذه الاشجار وتلك الحيطان.. لكن أين رأيتها لا أتذكر.. أتوقّف قريبًا من ثلاث نوافذ متقاربة.. أطل من النافذة القريبة الاولى.. أرى نائب المديرة.. يحرّك شفتيه.. ربما كان يتحدّث إليها.. لكنني لا اسمع ما يقول.. أفهم أنه يدعوني للدخول.. إلا أنني لا أجد الباب.. يبتسم النائب.. يتركني ويعود الى سيدته المديرة و.. إلى زملائه المعلمين.. القاعة تضج بالأفخاذ والطرب.. أما أنا في هذا الخلاء الرهيب.. فإنني الغريب الوحيد.. أنطلق في الساحات والشوارع أهرب من الحيطان العالية والاشجار المحدودبة على اسوارها.. أريد أن أرى أناسًا مثلي.. تقلّ الاطياف المارة قريبًا مني.. أستوقف عازفًا على آلة موسيقية قديمة.. أساله هل تعرف طريق العودة فتهمي من عُودة دمعة.. ليتني أعرف.. ها هو عمري قارب أعمار تلك الجبال ( ويشير نحو الجبال البعيدة)، وأنا أبحث عن الطريق.
أتخذ مجلسي فوق رابية تطلّ على المكان. قلبي يقول لي إن ذلك الطفل لن يتركني وسوف يعيدني إلى ذاتي المشتاقة.. إلى هناك.. حيث البيت.. بيتي.. وحيث ورداتي المجنونات الحنونات.. أجلس وأنتظر.. أغمض عينيّ فأراه مُقبلًا .. أفتحمها فيغيب.. يتأكد لي مرةً تلو مرة أن ذلك الطفل في الطريق إلي وأنه سيصل إلى حيث أنتظره فوق تلك الرابية.. شعور غامر يجتاحني.. إني اراه.. يركض باتجاهي.. ووراءه يركض رتلُ المعلمين تتقدمهم مديرتنا.. يركضون جميعهم بلباسهم الابيض والاسود.. لكني.. لا أرى احدًا.. سوى ذلك الطفل الشقي.. طفلي أنا..

مقالات متعلقة

.