لا أدرى من اين ابدأ حروفي التائهة التي يتفاقم بها الغليان الصامت حتى غابت ورفضت ان تروّض نفسها، فقد تفتتت في واقع تمزقت به الشرائع وتغلغلت به الفوضى الصاخبة وانقلبت به الموازين، تحاول ان تلملم نفسها كعصفورة تنتفض لتصنع فضاء للضعفاء.
وما يجول في هذا الفضاء جملة من التناحر الرابض على السلطة التي تحمل عدة إشكاليات بمفهومها ودلالاتها، فمن جهة هي تعتمد على حق القيادة والحكم ومن جهة أخرى فإنها تتوارى بشكل من اشكال القوة بهدف التأثير والسيطرة. وهذا يدفع بنا الى الخوض في إشكاليات أخرى بمفهوم الشرعية والمشروعية، والأخيرة وان كانت ظاهريا لا تعبر عن إشكالية من حيث ان كل ما يتماشى مع احكام القوانين يعد مشروعا. فان الأولى باستنباطاتها تثير الجدل كونها تحول القوة الى سلطة شرعية وتبعاتها في الممارسات، التي قد تتمثل بدلالات أخرى مثل النفوذ والسيطرة.
وإذا نظرنا الى الجانب الاخر من المفاهيم فان الممارسات تجسد صورا مختلفة من طبائع شخصيات الممارسين. وحين تحتكم السلطة للقوانين كقاعدة لضمان الموافقة والامتثال الى قرار او أسلوب عمل (القدرة على ضمان الإذعان) يعني وبالتالي هنا القدرة على ممارسة القوة إذا احتاج الامر لتحقيق ما هو مرغوب فيه، سواء وجدت المقاومة او لا. لذلك فان ادراكات ممارسي السلطة وافعالهم هي جزء من ركائز العلاقة التبادلية بين العناصر البنيوية للسلطة.
ان مفهوم السلطة مرتبط أيضا بالبنية والوعي الجمعي. وهذا يشير الى العلاقة بالأخر، وهي علاقة اجتماعية بجوهرها، باستطاعة بعضها التأثير على البعض. وهنا علينا أيضا ان ندرك مجال احتواء مفهوم السلطة الذي قد ينعكس بحالات هيكلية هائلة (سلطة ابوية، سلطة إدارية، بلدية وحكومية والخ...). وسواء كانت السلطة تقليدية تقوم على التقاليد والأعراف، او سلطة كاريزماتية تعتمد الصفات الشخصية للتأثير والتغيير، او سلطة عقلانية/ قانونية ترتكز على قوانين وفق المنطق، فانه وباعتقادي حينما يختار ممارسي السلطة تجريد القوانين من انسانيتها وتفقير الدلالات لمرونة مئشارية واضحة تحدد معايير إنسانية - اجتماعية، يبدأ دخول الوعي الجمعي بالهياكل المختلفة الى حالة من عدم توازن القيم، والتي من الممكن ان تعيد صياغتها بتغييرات والى مآلات قد تتهاوى الى أعماق مظلمة.
وفي خضم كل هذه التداخلات والتشابكات في المفاهيم، فان ما يستغيث فكري هم البسطاء الذين أحيانا بفطرتهم، وسواء بوعي او بعدم وعي، يقبعون تحت عدد من اشكال الهياكل السلطوية المختلفة، ولا يجازفون في احتكام ارباب العمل او اي سلطة بلدية او اخرى. فالعامل الكادح الذي يشرق فجره بين سكك المنشآت او المصانع او المتاجر لا يفكر الا بتأمين قوت عائلته، او امرأة ارملة او مطلقة في امانة رعيّتها اطفالها واقصى حلمها سد ضور جوعهم. هؤلاء هم من يحتاجون من ممارسي السلطة تكليل القوانين بإنسانيتها واشباع الدلالات بمرونة مئشارية واضحة دون محاباة او ازدواجية تحدد معايير إنسانية-اجتماعية في ضمان العيش الكريم المغلف بالقيم الأخلاقية التي تحترم إنسانية الانسان. فلا تنزلق الاجيال في انحرافات تفاقمية في اعقاب استشراء القوة السلطوية التي تسعى الى النفوذ ضمن اجندة غامضة للعيان. وباعتقادي، فان المسؤولية القيادية تتبلور بشمولية تشبيك المحاور افقيا وعاموديا، وعدم سحق الطبقة الكادحة ومواصلة النهوض بها نحو إحراز تأدية العدالة الاجتماعية.