وَحَدَّثْتَني، يا شَيْخَ الرَّذاذِ، بِالأَمْسِ البَعيدِ، عَنْ أَمْسِ الَّذي كانَ ما يَزالُ مُسْتَقْبَلًا، لا يُبْدي سِوى غُموضٍ البَيانِ القَويمِ.. وَقُلْتَ لي إِنَّ الحَدائِقَ لا تَصْلُحُ لِغَيْرِ المَوْتى الدَّاخِلينَ حِياضَ ظُلْمَتِهِمْ.. وَإِنَّ بَعْضَ المَساكِنِ لا تَليقُ بِغَيْرِ الغابِرينَ العابِرينَ مِنَ المَكانِ إِلى شَبيهِهِ زَمَنًا وَحوادِثَ.. وَحَدَّثْتَني عَنْ سَلْمى قُبَيْلَ جُنونِ الرِّيحِ غَرْبًا وَنَثْرِها عُرْيَنا عَلى الجِهاتِ.. فَهَلَّا أَعَدْتِ لي ذاكِرَتي مِنِ انْزِياحِها صَوْبَ التَّوَغُّلِ في السَّحيقِ القاتِمِ المُؤْتَلِفِ عَتْمَةً في اخْتِلافِ الضِّياءِ فينا كُلَّ تَصَدُّعٍ؟
- يا ابْنَ طَوارِقِ المَطارِقِ.. يا ابْنَ الجُنونِ.. أَراكَ تَلْهو في الهَزيعِ الأَخيرِ مِنَ الكَلامِ.. تَبْحَثُ عَنْكَ فيما مَضى مِنْكَ قَصيدًا.. أَكُنْتَ أَنْتَ هُناكَ أَمْ كُنْتُما مَعًا؟ إِنِّي أَراكَ بِلا أَراكِ البيدِ، لِماذا خَلَّفْتَ نُبوءَتَكَ هُناكَ عَلى الرِّمالِ فَذَرَتْها السَّوافي؟ مِنْ يَلُمُّها؟ وَالرِّمالُ كَساها قَتادُ القُرونِ الحَديدُ.. مَنْ يُعيدُ إِلَيْكَ سَلْمى؟ وَسَلْمى لَمْ تَكُنْ غَيْرَ صُدْفَةٍ مِنْ جَمالٍ فَتَحَتْ لَكَ مَغاليقَ كُنوزِ الخُلودِ.. وَأَنْسَتْكَ الكُنوزُ سَلْمى فَسِرْتَ وَحْدَكَ واهِمًا أَنَّ سَلْمى مَعَكَ؟ فَإِلى مَتى سَتَظَلُّ تُفارِقُ جُنونَكَ فيها؟
تَعَلَّمْ أَنْ لا تَجيءَ في ذَهابِكَ.. وَلا تَغْرُبَ في قُدومِكَ مِنْ آخَرِكَ القَديمِ.. تَعَلَّمْ يا ابْنَ صُداعِ الوَقْتِ.. أَنَّ الرِّيحَ لا تُصادَقُ.. وَأَنَّ ما تَهَبَكَ مِنْ وَهْمٍ في ثِيابِ فَرَحٍ عارِيَةٌ مُسْتَرَدَةٌ، لا تَلْبَثُ أَنْ تَغْصِبَكَ إِيَّاها.. وَتَتْرُكَكَ نَهْبًا لِقِراعِ كَوابيسِ الغيلِ في لَيْلِ السُّيولِ.. أَنَسيتَ لَيْلَ السُّيولِ، وَامْتِناعَ الوُصولِ؟
قُمْ وَاغْتَسِلْ بِالطِّينِ الرَّخْوِ مِنْ إِثْمِ صَحْوَةِ وَهْمِكَ فيكَ، ساعَةَ أَنْساكَ سَلْماكَ عَلى شُرُفاتِ الكَلامِ الغَريبِ الخَدَرِ.. لَقَدْ أَنْشَبَ السِّحْرُ المَسائِيُّ هُناكَ فيها مَخالِبَهُ.. كانَتْ عَلى أُهْبَةِ سَماعِ تَرْتيلِكَ في حَضْرَتِها عَلى سَطْحِ نَجْمَةِ المَواعيدِ.. كانَتْ عَلى قَيْدِ عِناقٍ وَقُبْلَةٍ.. كانَتْ تَسْتَعِدُّ لِطَقْسِكَ المُعتادِ كُلَّ لِقاءِ اعْتِناقٍ.. لكِنْ باغَتَها السِّحْرُ، وَخَدَّرَها حَديثٌ ظاهِرُهُ زُهورُ رَبيعٍ، وَحَدائِقُ بابِلِيَّةٌ مِمَّا خَلَّفَ جِلْجامِشُ قَبْلَ رِحْلَتِهِ.. وَباطِنُهُ أَذْرُعُ أَخْطَبوطِ أَعْماقِ اللَّيْلِ الموغِلِ في القُبْحِ.. أَكانَ عَلَيْكَ أَنْ تَسْتَسْلِمَ لِلْوَهْمِ فَلا تَجِدَ حَوْلَكَ غَيْرَ فَراغٍ يَمْلَأُهُ عُواءُ الوَقْتِ؟ وَسَلْمى في بَراثِنِ كَلامٍ لا يَسْتَوي مِنَ العِوَجِ.. كانَ الكَلامُ هُناكَ خَناجِرَ تُمَزِّقُ لَحْمَها.. كانَتْ تَسْتَصْرِخُكَ وَلَمْ تَسْمَعْ.. وَحِيلَ بَيْنَكُما وَبَقيتَ وَحْدَكَ تُقاتِلُ الرِّياحِ وَاللَّيْلَ بِالقَصيدِ وَالغَضَبِ.
قُمْ وَاغْتَسِلْ قَبْلَ الشَّمْسِ، سَيَمُرُّ الغابِرونَ العابِرونَ إِلى زَمانِهِمُ الأَوَّلِ، حامِلينَ سَلْمى مَعَهُمْ، فَقَدْ عَثَروا عَلَيْها عَلى قارِعَةِ قَصيدَةٍ جَدَلِيَّةِ السَّبْكِ، فَخْمَةِ المَجازِ، عَمْياءِ الطَّريقِ.. فَاحْتَمَلوها مَعَهُمْ في هَوْدَجِ بَرْدٍ عَلى بَعيرِ صَقيعٍ، أَذابَهُ طولُ الطَّريقِ..
حَذارِ أَنْ تَلْقاها كَما فارَقْتَها.. أَخْمِدْ نارَكَ القَديمَةَ فَقَدْ أَرْهَقَتْها فَظَنَّتْكَ قِطْعَةً مِنْ جَهَنَّمَ.. وَانْشُرْ عَلَيْها ظِلالَكَ وَنَسائِمَ صَباكَ في تَجَلِّيكَ بِحَضْرَتِها.. وَاحْذَرْ عَلَيْها الرَّمادَ.. فَلا أَمانَ لَهُ.. سَلْماكَ أَنْتَ فَلا تُكِنْها سِواكَ وَكُنْها.. لِتُشْرِقَ نُبوءَتُكُ فيها.. خُلِقْتُما واحِدًا غَيْرَ مُجَزَّإٍ، فَلا تَتَعَدَّدَا.
*يا شَيْخَ الرَّذاذِ.. هذا تَأْويلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ..