يُحدّق في الشاشة الصغيرة قبالته. هل ما تراه عيناه صحيحًا؟ الصورة صورتها لكن الاسم ليس اسمها. ماذا تراه يفعل ليتأكد من انها هي؟ هو لا يمكن ان ينسى صورتها. تلك الصورة انطبعت في ذاكرته منذ شبابه الاول. قبل اكثر من ثلاثين عامًا.
في تلك الفترة التقى بها لدي زيارته لصديق فنان. كانت صبية في السابعة عشرة من عمرها. اقل قليلًا او اكثر. كانت في ربيع الورد. صبية ناضجة العنق مورّدة الخد. بعد ان دخلت بينه وبين صديقه.. حاول التقاط كل ما يبثه الكلام من مشاعر واحاسيس، لا تخفى عليه هو الكاتب الحساس لكل كلمة ونأمة. فهم مما دار بينها وبين صديقه المضيف الفنان انها تهوى الغناء وتحلم ان تكون فنانة ذات صوت وشأن في عالم الغناء الضيق في البلاد. بعد ان عرف كل شيء عنها.. انصرف دون ان ينطق بكلمة. وكان كلما ابتعد يستمع إلى صوتها الرخيم الرنان يتسلل من هناك.. من وراء تلال الدفى والامل. بعدها قادته قدماه لزيارة ذلك الصديق الفنان بكثافة من يهوى الفن واهله والاغاني ايضا. وكان كلما التقى بها ووقعت عيناه عليها يبتسم ويمضي كأنما هو يريد ان يحتفظ بصورتها في عينيه وفي ذاكرته.. الى الابد.. وتمضي الايام كما يحدث دائمًا. وتنتهي تلك الفترة بحلوها ومرها.. فاصلة بينه وبين ايام لن يعرف قيمتها الحقيقية الا حينما تتحول إلى ذكريات تستعصي على الاستعادة بالضبط مثلما تستعصي على النسيان..
يواصل التحديق في صفحة الفيس بوك.. هو لا يمكن ان ينسى ذلك الوجه المنير المطبوع.. بل المحفور في ذاكرته ووجدانه.. الصورة صورتها.. هي لم تتغير كثيرًا.. عنقها ما زال طويلًا كما هو وخدها ازداد نعومة ونضارة.. لكن الاسم ليس اسمها.. ويتمعن باسمها: وفاء الكنجو.. اما صاحبة الصورة التي يعرفها ويراها الآن قبالته تنير ما اظلم في ذاكراته وابعده الزمن.. فقد كانت تدعى سلمى.. نعم انه يتذكر جيدًا اسمها لتشابهه مع اسمه.. سلمى ضاهر. ترى ما الذي دفعها لهذا الظهور المفاجئ بعد ثلاثة عقود وربما اكثر من الغياب؟ لماذا ظهرت.. بصورة هي صورتها.. لكن باسم غير اسمها؟ ترى ما الذي تخبئه لي معها أيها القدر الحرون؟ ولماذا تنتزعها في هذه اللحظات من ماضيها البعيد لتقذف بها مثل قنبلة كونية.. تهز كياني وتبعث فيه رعشة طالما تاقت اليها النفس وهفت الروح؟
لم ينم في الليلة التالية. كان حائرًا فيما يمكنه ان يفعله. هو لا يتسرّع مثلما فعل في سنوات عمره بأيامها ولياليها الفائتة. وهو الآن تحديدًا لن يخرج عن هذه القاعدة.. لن يخرج.. يعني لن يخرج. ويأتيه من اعماقه السحيقة صوت يهتف به: اخرج. لماذا لا تخرج عن عادتك اللعينة هذه؟ الست القائل إن الابداع هو الخروج على المعروف والمألوف؟ ام ان ما رددته بهذا الصدد كان مجرد كلام لا تغطية له؟.
يشعر بنوع من الاستفزاز. يندفع مثل غزال يطوي الفيافي طيًا. رغبة هائلة في معرفة كنه ما رآه تمسك يده وتمدها إلى صورة التلفون على صفحة الفيس بوك.. بسرعة برقٍ شابٍّ لا يشيخ يأتيه صوتها مَنْ؟ انه هو صوتها المسترخي في اعماقه يأتيه من مجاهل لا يصل إليها إلا الاحساس الصادق المرهف.. لا يمكن ان تكون صاحبة هذا الصوت امرأة غيرها في العالم. هو متأكد من هذا. انها تُغني، هو يعرف صوتها من بين مليارات الاصوات. ما يبلغه ويفد إليه الآن هو.. صوتها.
-هل انت سلمى ضاهر؟ يسألها. نعم تفضل. من أنت؟ إنه صوتها.. صوتها.. صوتها.
ترتسم على شفتيه ابتسامة ويواصل. لولا صورتك ما عرفتك.. ما زلت انت، انت التي التقيت بها قبل ما يقارب الثلاثين عاما.. عندها يأتيه صوتها مزغردًا فرحًا..
-انت ناجي ظاهر اذًا.
تشع صفحات الفيس بوك امامه كما لم تشع من قبل.. شكرًا لهذا الاختراع الرائع.. لولاه ما كانت جبالُنا المغرمة تلتقي. وتتدفق شلالاتُ الشوق بينهما، طاوية بحارها وانهارها. وواصلة بينهما. وسرعان ما تتكشف الاستار المنتشرة الغامضة في كل ناحية وصوب بينهما. هما الآن باختصار لا يريدان ان يعرفا ماذا حصل لكلٍّ منهما بعد تلك الفترة الصامتة الغائرة في قلب الزمن. لا يريدان أن يتذكرا. ما يهم كل منهما حاليًا هو امر واحد ووحيد.. انهما التقيا وان الزمن رأف بروحيهما المتعبتين وجمع بينهما بعد غياب كاد يكون ابديًا لولا رحمة الفيس بوك ومارك زوكيربيرغ.
ما الح عليهما في وهج اللقاء هو.. وماذا بعد؟. الآن لا يهمهما ان يعرفا ان كلًا منهما ارتبط وانجب وانفصل. وانه تزوج الكتابة وانها تزوجت الاغاني.. والح عليه في خضم المشاعر الثائرة سؤال عن سبب تغييرها لاسمها من وفاء كنجو الى سلمى ضاهر. فوجّهه إليها. إلا أنها لم ترد عليه بكلام واضح. وراحت تلف وتدور. وفهم منها كل ما اراد ان يفهمه. هي الآن مصابة بالمرض العضال. لهذا نشرت صورتها على الفيس بوك. كنت اعرف انك ستظهر بعد نشري لتلك الصورة. وها انت تفعل. منذ اللحظة الاولى لاتصالك عرفت صوتك. نحن لم نتحدث كثيرًا في تلك اللقاءات المورّدة السريعة الغامضة. إلا أن كلًا منا عرف الآخر عميقًا وجيدًا. كان لا بد من ان احضر. لم اشأ ان اولّي بصمت مثلما حضرت قبل كل تلك العقود. بالنسبة لتغيير اسمي تم بحثًا عن حظ طالما تمنيته، فهل اجده بعد كل هذا العذاب؟
حالة من الصمت تستولي عليه.. يشعر بغصة تجتاح عالمه لتستوطن حلقه. كم هي كلمة مرض قاسية وصعبة وفتّاكة.. هل هي ظهرت بعد كل هذه السنوات لتغيب مجددًا؟ هل هي سعت إلى اللقاء الاخير لتودعه؟ هل سيصيبه مثلما اصاب ابن زويدن عندما شعر بانتهاء عهده بوليفته الخالدة ولادة بنت المستكفي؟ فبكى مودع صبره؟ ربما الاغلب انها ظهرت قبل غيابها الاخير الذي يُغلق دائرة اللقاء الاول وما تلاه بينهما.. هي وهو. هل حضرت لتغيب؟ ما افظع هذا. هل سينتزعها القدر منه بعد ان جمعه بها الفيس بوك.. اثر كل هذه السنوات؟ لا، لن يحدث هذا. لن يحدث. لن يحدث. هو سيحميها هذه المرة برمش العين ولن يتركها تغيب مرةً اخرى. لا لن يتركها. لكن ماذا سيفعل بذلك السرطان الخبيث زائرها الثقيل؟ وومض في مدى غصته اسم كاتب انجليزي طالما ذكر اسمه امام مصابين آخرين.. اسم.. انتوني بيرجس.. لقد فاجأ فحصٌ احمق هذا الكاتب ايام شبابه بأنه مصاب بالمرض العُضال. فعاد إلى بيته وهو طافح بأحزان لا حدود لها. لإحساسه انه لم يكتب ما اراد ان يكتبه. ولأنه سيغادر هذه الحياة قبل ان يترك خطًا اراد ان يتركه على رمالها. فما كان منه إلا أن انكب على آلته الكاتبة لينتج الرواية تلو الرواية وليعيش بعد اكتشافه للمرض اكثر من ثلاثين عامًا بعيدًا عن المرض وآلامه. تبع ومض اسم انتوني بيرجس اسم سلى ضاهر.. لماذا هو والحالة ما هي عليه لا يكتب لها اغنية تبعث الامل البعيد مجددًا في عروقها؟ ولماذا لا تكون هذه الاغنية عن مريضة تقاوم المرض بالصداح؟ وبادر من فوره إلى كتابة تلك الاغنية، متصورًا سلماه تصدح بها في كل انحاء العالم.. وشاعرًا ان تلك الاغنية ستجعلها تعيش وستمنحهما القدرة على مواصلة حلمهما الانساني المشترك معًا وجنبًا إلى جنب.. ألم يؤمن طوال عمره بان الاغنية يمكن أن تدحر الغياب والمرض .. وتنتصر؟.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com